أنواع الصبر. حفظ
الشيخ : وقوله عز وجل : (( بِمَا صَبَرُوا )) الباء هنا للسببية. أي : بسبب صبرهم. و(ما) مصدرية ، لأن ما بعدها يؤول بالمصدر. وقدر الكلام بعد تأويل المصدر تجده يكون. إيش؟ قدر الكلام. الفعل قدره، مصدرت بعد (ما) المصدرية. ماذا يكون؟ أي بصبرهم. يجزون الغرفة بصبرهم. الصبر : الحبس، الصبر: الحبس. ومنه قول العرب: " قتل فلانٌ صبراً " أي : محبوساً مقيداً. فما المراد بالصبر هنا؟ المراد به الصبر على ثلاثة أمور : الأول : على طاعة الله. الثاني : عن معصية الله. الثالث : على أقدار الله. ثلاثة أنواع. الصبر على طاعة الله، الصبر عن معصية الله، الصبر على أقدار الله. فما هو الصبر على طاعة الله؟ الصبر على طاعة الله : أن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة فيتمها ويتقنها ويجيدها. وهل يحتاج هذا إلى معاناة؟ الجواب : نعم. يحتاج والله إلى معاناة لا سيما مع مشقة الطاعة. فإن الإنسان يجد معاناة. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الرباط من جملة أوصاف المرابطين أنهم : ( يسبغون الوضوء على المكاره ) وفي رواية : ( في الصبرات ) يعني : أيام البرد ، لأن أيام البرد يشق على الإنسان أن يتوضأ لبرودة الماء. كذلك الصلاة تحتاج إلى معاناة صبر. وليس الصبر في الصلاة على مجرد الحركات البدنية ، الحركات البدنية قد تكون سهلة مثل إيش؟ القيام والركوع السجود. هذا قد يكون سهلاً. لكن هناك صبر شاق متعب. وهو صبر القلب على عدم الوساوس، على عدم الوساوس، يعني : على عدم السرحان يميناً وشمالا. وأكثرنا -ونسأل الله أن يعاملنا بعفوه- أكثرنا يصلي ولكن قلبه ليس مصلياً. قلبه يجول يميناً وشمالا. فهل نقول: إن هذا صابر؟ لا. ما صبر. احبس القلب. اجعله يتدبر ما تقول ويتأمل ما تفعل. إذا قرأت الفاتحة اصبر نفسك على أنك تخاطب رب العالمين جل وعلا. إذا قلت : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) فالله يقول لك: حمدني عبدي. إذا قلت : (( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) فالله يقول لك : أثنى عليَّ عبدي. إذا قلت : (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ))فالله يقول : مجدني عبدي. وإذا قلت : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) قال : هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. اصبر قلبك على أنك تستحضر هذا المعنى العظيم. ثم اذكر قول الله عز وجل : (( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ )). يعلم الوسوسة والذي يوسوس به. وحينئذٍ يكون هذا عوناً على حضور القلب. الشيطان سوف يهجم عليك. إذا صددت القلب عن الهواجس في هذا الشيء إيش يكون؟ فتح لك باباً آخر. ثم يفتح لك باب ليس ذا قيمة ولا ينفعك لا في دينك ولا دنياك. إذا سددته فتح آخر. لم يكن يطرأ على بالك أبداً وهلم جرا. اصبر قلبك احبسه عن الهواجيس. أحضره في صلاتك ، أحضره معك. هذا صبر على الطاعة. طيب صبر على الطاعة. الإنسان في الحج يجد مشقةً عظيمة في الزحام، في الطواف ، في السعي ، في رمي الجمرات ، في الطريق. يجد. اصبر نفسك. لا تقل : ليتني ما حجيت هذا العام. اصبر نفسك ، احبسها على هذه المشقة. هذا صبر على طاعة الله. في الصيام في أيام الصيف النهار طويل، والجو حار، والبدن يحتاج إلى رطوبة. فتنشف الأعضاء ويتألم الإنسان. ولكن اصبر. اصبر نفسك. لا تتأسف على صوم تطوع. ولا تمل من صوم واجب. اصبر نفسك. طاعة الوالدين ، قد يأمرك الوالد بما لا تريد لكن ليس عليك فيه ضرر وله فيه مصلحة اصبر عليه وإن كنت لا تريده. والأمثلة على هذا كثيرة. الصبر على الطاعة.
الصبر عن المعصية. هذا القسم الثاني : الصبر عن المعصية بمعنى: أن نفسك إذا دعتك إلى معصية فإيش؟ فامنعها، امنعها. ذكرها بالله. خوفها من العقوبة. لو دعتك نفسك إلى أن تشرب الخمر والعياذ بالله. احبسها ، امنعها. بيّن لها ما فيه من الضرر. لو دعتك نفسك إلى الزنا بالعين أو بالأذن أو بالفرج اصبر نفسك. غض الطرف. أعرض عن السماع. حصن فرجك. وربما تجد من ذلك صعوبة لا سيما مع قوة الداعي وقلة المانع. الداعي إلى الزنا في الوقت الحاضر قوي وإلا ضعيف؟ أجيبوا يا جماعة. قوي. إذا نظرت إلى وسائل الإعلام وإلى الشيء الفاضح سواء كانت مرئية أو مسموعة أو مقروءة قوي جداً. كذلك أيضاً الداعي إلى هذا قوة الشباب ، الفراغ، الأمن، النعمة. كل هذه من أسباب تسهيل الزنا والعياذ بالله. إن نظرت إلى المانع فإذا هو ضعيف. الإيمان ضعيف، الرادع السلطاني ضعيف. انظر إلى البلاد يمينك وشمالك تجد أن الرادع هش. لا يقيمون الحدود. وسمعنا -والعهدة على الناقل - أن في بعض قوانينهم أنه إذا كان الزنا بين طرفين رجل وامرأة باختيارهما ولا زوج للمرأة فإنه لا عقوبة. نعوذ بالله. تعطل الحدود على إيش؟ فإن كان لها زوج ورضي بذلك فلا عقوبة. وإن طالب فله الحق. ايش تقولون في القانون هذا؟ باطل وإلا صحيح؟ باطل. الإعراض عن حكم الله واتباع هذا قد يؤدي إلى الكفر المحض والعياذ بالله. فإذا صبر الإنسان نفسه مع قوة الداعي وقلة المانع كان هذا من الصبر المحمود. أيهما أشد كلفة على الإنسان : الصبر على الطاعة أو عن المعصية؟ الأصل أن الصبر على الطاعة أشد ، لأن فيه حمل النفس على الفعل. والفعل أهون من الترك. لكن قد يكون في بعض الناس الصبر عن المعصية أشق عليه. ولكلٍ درجات مما عملوا.
الثالث : الصبر على أقدار الله. الصبر على أقدار الله. أقدار الله عز وجل ما يقدرها على العباد. وهي دائرة بين أمرين : بين الإحسان والعدل. - انتبه يا رجل -.كل ما يقدره الله على العبد من مصائب دائر بين أمرين : إما إحسان وإما عدل، إما إحسان وإما عدل. الإحسان : أن يقدر الله مصيبة على العبد ولا يعلم لها سبباً. هذه إحسان. وأما التي يعلم أن لها سبباً فهذا إيش؟ عدلٌ. (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ )). وما منا أحد إلا يصاب يا إخوان. والمصيبة مصيبة الدين. ولهذا نقول في دعاء القنوت : اللهم لا تجعل مصيبتنا في إيش؟ في ديننا. الدنيا مهما كانت يا إخواني مصيبتها هينة. غاية ما فيها الموت. والموت انتقال من أدنى إلى أعلى بالنسبة للمتقين. قال الله عز وجل : (( وَالآخِرَةُ خَيْرٌ )) لمن؟ (( لِمَنْ اتَّقَى )). مصيبة الدنيا سهلة بالنسبة لمصيبة الدين. مصيبة الدين والله أعظم وأشد على العاقل. أما الدنيا فكما قلت لكم أولاً : الحال لا تدوم. كما قيل: دوام الحال من المحال. والثاني : أنها أنهى ما تكون أن توصل إلى الموت الذي لا بد منه. الصبر على أقدار الله : أن لا يتسخط الإنسان بقلبه ولا بلسانه ولا بجوارحه. كم؟ ثلاثة. لا بقلبه ولا بلسانه ولا بجوارحه. أن لا يتسخط بقلبه بأن يسخط على الله عز وجل. ويقول : كيف ابتلاني ولم يبتلِ فلاناً؟ يا أخي. من أنت؟ ألست عبداً لله؟ إذا كنت كذلك فالسيد يفعل بعبده ما شاء. ثم اعلم أنك لا تصاب بمصيبة وإن قلَّت إلا كُفَّر بها عنك سيئات أو رُفعت بها درجات. حتى جاء في الحديث : إن الرجل ليطلب المفتاح من جيبه - مفتاح الدار- ولا تقع عليه يده أول مرة. ويش يفعل؟ يفزع يقول عسى ما ضاع. وين روحت؟ هذا الفزع يكتب له به أجر ، هذا الفزع يكتب له به أجر. إلى هذا الحد حتى إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : ( الشوكة يشاكها يثاب عليها ). أنت مأجور. فكيف تتسخط من قضاء الله وقدره والخير لك؟ يقال : إن رابعة العدوية - وهي من جملة العابدات - أصيبت بمصيبة فقطعت أصبعها فلم تتأثر. فقيل لها في ذلك. قالت : " إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها ". ما شاء الله!
أما التسخط باللسان : كأن يشكو الله عز وجل إلى الخلق. يشكو الله إلى الخلق أو يقول : واويلاه! واثبوراه! وما أشبه ذلك.
أما بالجوارح : فشق الجيوب، ولطم الخدود، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك. يوجد أناس هكذا. وأعظمه وأقبحه وأشده : الانتحار والعياذ بالله. يوجد أناس إذا أصيبوا بالمصائب التي يعجزون عنها ذهبوا يقتلون أنفسهم. ولقد حكى لنا نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم قصة رجل جُرح فلم يصبر. ففعل ما لا يجوز فعله فأوجب الله له النار. والذي ينتحر تخلصاً من هذه المصيبة هل يتخلص؟ أجيبوا يا جماعة. لا ما يتخلص. هو يظن أنه إذا مات استراح وليس كذلك. بل إذا مات فإنه معذب في نار جهنم بما قتل به نفسه خالداً فيها مخلداً أبداً. ولهذا ننعى إخواننا الذين يذهبون إلى بلاد فلسطين المحتلة ، يفجرون أنفسهم بين جمع اليهود يظنون بذلك أنهم متقربون إلى الله. ولكن هذا لا يزيدهم إلا بعداً ، لأنهم يقتلون أنفسهم والعياذ بالله. وقتل النفس من كبائر الذنوب. يُعذب في النار بما قتل به نفسه. ولكننا لا نقول لهؤلاء : إنهم من هذا الصنف ، لأنهم مجتهدون. يظنون أن هذا خير. والمتأول نرجوا الله له العفو. لكن هذا العمل محرم شرعاً وليس من الجهاد في سبيل الله. وهو أيضاً خلاف المعقول يا جماعة، خلاف المعقول. إذا قدرنا أنه قتل نفسه كم يقتل من اليهود؟ أكبر شيء خلي يقتل خمسين ، مائة. ماذا تأخذ اليهود بالثأر. تقتل مئات. وتزداد تعصباً لما ترى من استحلال البلاد. لكنّ أكثر الناس لا ينظر إلى العواقب ولا ينظر إلى الأمور العميقة. المهم يا إخواني أن الصبر على أقدار الله موضعه اه خمسة؟ ثلاثة. هي : القلب، اللسان، الجوارح. هذه أنواع الصبر. فقول الله عز وجل هنا : (( أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا )) أي: بصبرهم. والصبر كما سمعتم ثلاثة أنواع. واعلم أن مما يسليك عن المصائب أو في المصائب أن تنظر إلى من حولك. هل من حولك قد أصيبوا أو لا؟ انظر. إنك لن ترى إلا مصاباً مثلك أو أعلى منك أو دونك. لكن لا يخلو أحد من مصيبة إلا من قصر عمره فهلك قبل أن تناله المصائب. هذا إن قدر وجوده. سلِّ النفس بأقرانك وأصحابك. كانت الخنساء ترثي أخاها صخراً وتقول :
" ولولا كثرة الباكين حولي *** على إخوانهم لقتلت نفسي.
وما يبكون مثل أخي ولكن *** أسلي النفس عنه بالتأسي "
.
انظر للناس.