تتمة تفسير قوله تعالى : (( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون )) . حفظ
نبدأ الدرس قال الله تعالى: (( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر )) (من آياته) (من) هذه للتبعيض وعلامة (من) التبعيضية أن يحِلَّ محلَّها (بعض) يعني: بعض آياته، (( الليل والنهار والشمس والقمر )) وذكرنا وجه كون هذه الأربع من آياته فيما سبق ولا حاجة للإعادة، (( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر )) الخطاب لجميع العباد نهاهم أن يسجدوا للشمس أو للقمر لأنَّ مِن الناس مَن يعبد الشمس والقمر ويسجُد لها، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ الشمس تطلُع بين قرنَي شيطان فإذا طلعت سجَدَ لها الكفار ومِن ثَمَّ نُهِيَ عن الصلاة في أوقات النهي التي هي قريبَة مِن طلوع الشمس وغروبِها، (( واسجدوا لله الذي خلقهن )) (اسجدوا لله) المراد بالسجود هنا -والله أعلم- ما هو أعَمّ مِن السجود الخاص الذي هو وضْعُ الأعضاء السبعة على الأرْض أي أنَّ المراد بالسجودِ هنا الذُّلّ كما قال تعالى: (( ولله يسجُدُ مَن في السماوات والأرض طوعًا وكرْهًا )) ويحتمِل أن يكون المراد به السجود الخاص لقولِه: (( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر )) والقاعدة في علم التفسير أنه إذا كان اللفظ يحتمِل معنيين أحدُهما أوسَع وأعَمّ وأشمَل فإنه يُحمَل على الثاني الذي هو أوسع وأعَمّ، (( واسجدوا لله الذي خلقهن )) الذي خلق هذه الأشياء وفي هذه إشارة إلى أنَّ الله هو المستحق لأنْ يُسجَد له لأنَّه هو الخالق وأما هذه فهي مخلوقة لا تستَحِقُّ أن يُسجَدَ لها، (( إن كنتم إياه تعبدون )) أي إن كنتم ذوي عبادة لله حقًّا فاسجدوا لله ولا تسجدوا للشمس ولا للقمر، وقوله: (( إياه تعبدون )) العبادة بمعنى الذل ومنه قولهم طريق مُعَبَّد أي مُذَلَّل لِمَن سلكَه ليس فيه وعورة لا طلوع ولا نزول ولا التفافٌ يمينًا ولا شمالا، فالطريق المعبد يعني المذلل إذًا فالتعبد لله هو التذَلُّلُ له محبَّةً وتعظيمًا، واعلم أنَّ العبادة تُطلق على معنيين: المعنى الأول: التعبُّد لله الذي هو فعل العابد، والمعنى الثاني الـمُتَعَبَّد به التي هي العبادات ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إن العبادة اسمٌ جامع لكل ما يحِبّه الله ويرضاه " بناء على أنَّ المراد بها المتعَبَّد به، لكن كما قلت لكم هي تطلق على معنيين: على التعبُّد الذي هو فعل العابد، وعلى المتعَبَّد به الذي هو العبادات، (( إن كنتم إياه تعبدون )) قدَّم المفعول به، لإفادة الحصر لأنَّ مِن القواعد المقررة في علم البلاغة وغيرها أنَّ تقدِيم ما حقُّه التأخير يفيد الحصر، وهذه قاعدة يجب أن تكون لديكم معلومةً: إذا قُدِّم ما حقُّه التأخير كان ذلك دالًّا على الحصر فإذا قلت مثلًا: إياك أكرمت المعنى: لم أكرم غيرك، وقول القائل في سورة الفاتحة: (( إياك نعبد )) يعني لا نعبد غيرك (( وإياك نستعين )) يعني لا نستعين غيرَك