تتمة شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك ، فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال : لا ، بل اعتزلها فلا تقربنها ، وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك . فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر . فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له : يا رسول الله ، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : (( لا ، ولكن لا يقربنك )) فقالت : إنه والله ما به من حركة إلى شيء ، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا . فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه ؟ فقلت : لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما يدريني ماذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنته ، وأنا رجل شاب ! فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا ، ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا ، قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر ، فخررت ساجدا ، وعرفت أنه قد جاء فرج . فآذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بتوبة الله - عز وجل - علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا ، فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي ، وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت أتأمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون لي : لتهنك توبة الله عليك ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
قال المؤلف -رحمه الله- فيما ساقه من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحبيه رضي الله عنهما ، في قصة تخلفهما عن غزوة تبوك ، وتخليفِهما عن القضاء في شأنهما بشيء حتى جاء الوحي من الله عز وجل ، يقول رضي الله عنه : ( فلما تمت لنا أربعون ليلة ) : يعني شهرا وعشرة أيام ، وكان الوحي قد استلبث ، فلم ينزل الوحي كل هذه المدة ، وهذا من حكمة الله عز وجل في الأمور الكبيرة العظيمة ، يستلبث الوحي ولا ينزل كما في هذه القصة ، وكما في قصة الإفك ، حين انقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا مِن حكمة الله سبحانه وتعالى ، حتى يتشوف الناس إلى الوحي ويتشوقوا إليه ، ماذا سينزل رب العالمين جل وعلا ؟
بقي الوحي أربعين ليلة ما نزل ، فلما تمت أربعون ليلة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن مالك وصاحبيه هلال بن أمية ، ومراراة بن الربيع أن يعتزلوا نساءهم ، فجاء الرسول إلى كعب فقال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ) ، إلى هذا الحد ، امرأته شريكته في حياته وأولاده وفي بيته أُمر أن يعتزلها ، مع أنه شاب رضي الله عنه ، فقال كعب للرسول : ( هل يأمرني أن أطلقها أم ماذا أفعل ؟ ) يعني : لو قال إنه يأمرك أن تطلقها طلقها ولا بأس وهو هين عليه ، لأن طاعة الله ورسوله فوق كل شيء عند هؤلاء القوم ، قال : ( أمرني أن أبلغك أن تعتزل امرأتك ، فقال لها : الحقي بأهلك حتى يقضي الله في ما شاء ) .
وكذلك صاحباه ، فجاءت امرأة هلال بن أُمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بأنه في حاجة إليه لتخدمه لأنه ليس له خادم ، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بشرط ألا يقربها ، فقالت : ( إنه ليس له في هذا الأمر من شيء ) : يعني أنه ليس له شهوة في النساء .
( وأنه مازال يبكي رضي الله عنه منذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرهم إلى يومه هذا ) : أربعين يوما يبكي لأنه ما يدري ماذا يكون النهاية ؟
يقول رضي الله عنه : ( فلما مضى عشر ليال بعد هذا وكنت ذات يوم أصلي الصبح على سقف بيت من بيوتنا ) : لأنه كما مرَّ كانوا رضي الله عنهم قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، واستنكروا الأرض واستنكروا الناس ، يأتون إلى المسجد لا يكلمهم أحد إن سلموا لم يُردَّ عليهم وإن مرَّ عليهم أحد لم يسلم عليهم ، ثضاقت عليهم الأرض .
( فصار ذات يوم يصلي الصبح في بيته على سطحه يقول : فسمعت صارخا يقول أوفى على سلع ) : يعني صعد على سلع ، وسلع جبل معروف في المدينة ( أوفى عليه وصاح بأعلى صوته يقول : يا كعب بن مالك أبشر ) ، بس ، ( يا كعب بن مالك أبشر ) ، يقول : ( فعلمت أن الله قد أنزل فيَّ فرجا ) : أنزل الفرج لنا ، ( وركب فارس من المسجد يؤم بيت كعب بن مالك ليبشره ، وذهب مبشرون إلى هلال بن أمية ومرارة بن الربيع يبشرونهما بتوبة الله عليهما ) : شوف فرح المسلمين بعضهم مع بعض ، يتبشارون كلٌ يذهب يركض يسعى من جهة ، يقول : ( فجاء الصارخ وجاء صاحب الفرس فكانت البشرى للصارخ ) ، لأن الصوت أسرع من الفرس ، يقول : ( فأعطيته ثوبيَّ الإزار والرداء وليس يملك غيرهما ، لكن استعار من أهله أو من جيرانه ثوبين فلبسهما ، وأعطى ثوبيه هذا الذي بشره ) : أعطاه كل ما يملك ، لا يملك غير الثوبين لكنها والله بشرى عظيمة ، بشرى من الله سبحانه وتعالى عظيمة أن ينزل الله توبتهما ويمن عليهما بالتوبة .
فرضي الله عنه أعطى صاحب الصوت هذين الثوبين ببشارته ، ( ثم نزل متوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : وجزاه الله عن أمته خيرا قد بشر الناس بعد صلاة الصبح بأن الله أنزل توبته على هؤلاء الثلاثة ، لأنه عليه الصلاة والسلام يحب من أصحابه وأمته أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله ، يقول : ( فذهبت أتيمم الرسول صلى الله عليه وسلم ) يعني : أقصده ، ( فجعل الناس يلاقونني أفواجا أفواجا ) يعني : جماعات يهنئونه بتوبة الله عليه ، رضي الله عنهم ، هؤلاء القوم يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم ، لم يحسدوهم على ما أنعم الله به عليهم من إنزال القرآن العظيم بتوبتهم بل جعلوا يهنئونهم حتى دخل المسجد .
في هذه القطعة من الفوائد : أولا : شدة هجر النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة ، حتى إنه أمرهم أن يعتزلوا نساءهم ، والتفريق بين الرجل وبين امرأته أمره عظيم .
وفيها أيضا : أن قول الرجل لامرأته : الحقي بأهلك ليس بطلاق ، لأن كعب بن مالك فرق بين قوله : الحقي بأهلك وبين الطلاق ، فإذا قال الرجل لامرأته : الحقي بأهلك ولم ينو الطلاق فليس بطلاق ، أما إذا نوى الطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) ، فإذا نوى الإنسان بهذه الكلمة وأمثالها الطلاق فله ما نوى .
ومن فوائد هذه القطعة من الحديث : شدة امتثال ، أو قوة امتثال أمر الصحابة ، قوة امتثال الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه رضي الله عنه ما تردد ولا قال لعلي أراجع الرسول عليه الصلاة والسلام ، أو قال للرسول الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ارجع إليه لعله يسمح ، وافق بكل شيء .
ومن فوائد هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رحيما بأمته ، فإنه بعد أن أمر باعتزال النساء لهم رخص لهلال بن أمية لأنه يحتاج إلى خدمة امرأته .
ومن فوائدها : جواز حكاية الحال عند الاستفتاء أو الشهادة ، أو ما أشبه ذلك ، وإن كان المحكي عنه قد لا يحب أن يطلع عليه الناس ، لأن امرأة هلال بن أُمية ذكرت من حاله أنه ليس فيه حاجة إلى شيء يعني إلى شيء من النساء .
ومن فوائد هذه القطعة : أن الإنسان إذا حصل له مثل هذه الحال وهجره الناس وصار يتأذى من مشاهدتهم ولا يتحمل فإن له أن يتخلف عن صلاة الجماعة ، وأن هذا عذر ، لأنه إذا جاء إلى المسجد في هذه الحال سوف يكون متشوشا غير مطمئن في صلاته ، ولهذا كان كعب بن مالك يصلي ، أو صلى صلاة الصبح على ظهر بيت من بيوتهم ، وسبق لنا ذكر هذه الفائدة في قصة هلال بن أمية ومرارة بن الربيع .
ومن فوائدها : من فوائد هذه القطعة من الحديث : حرص الصحابة رضي الله عنهم على التسابق إلى البشرى ، لأن البشرى فيها إدخال السرور على المسلم ، وإدخال السرور على المسلم مما يُقرب إلى الله عز وجل لأنه إحسان ، والله سبحانه وتعالى يحب المحسنين ، ولا يضيع أجرهم ، فلذلك ينبغي لك إذا رأيت في أخيك شيئا يسره من خبر سار أو رؤيا سارة أو ما أشبه ذلك أن تبشره بذلك ، لأنك تدخل السرور عليه .
ومن فوائد هذه القطعة : أنه ينبغي مكافأة من بشرك بهدية تكون مناسبة للحال ، لأن لأن كعب بن مالك أعطى الذي بشره ثوبيه ، وهذا نظير ما صح به الخبر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ( وكان يأمر الناس إذا حجوا أن يتمتعوا بالعمرة إلى الحج ) يعني : أن يأتوا بالعمرة ويحلوا منها ، ثم يحرموا بالحج في يوم التروية ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن المتعة ، لأنه يحب أن يعتمر الناس في وقت ويحجوا في وقت حتى يكون البيت دائما معمورا بالزوار ما بين متعمرين وحجاج ، فعل ذلك اجتهادا منه رضي الله عنه ، وهو من الاجتهاد المغفور ، وإلا فلا شك أن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام أولى .
المهم أن رجلا استفتى عبد الله بن عباس في هذه المسألة ، فأمره أن يتمتع وأن يحرم بالعمرة ويحل منها ، فرأى هذا الرجل في المنام شخصا يقول له : حج مبرور وعمرة متقبلة ، فأخبر بذلك ابن عباس الذي أفتاه ففرح بذلك ابن عباس ، وأمره أن يبقى حتى يعطيه من عطائه ، يعني يعطيه هدية على ما بشره به من هذه الرؤيا التي تدل على صواب ما أفتاه به عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .
والمهم أن من بشرك بشيء فأقل الأحوال أن تدعوَ له بالبشارة أو تهدي عليه ما تيسر وكل إنسان بقدر حاله ، والله الموفق .