شرح قول الإمام النووي رحمه الله تعالى فيما نقله : " ... باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم . قال الله تعالى (( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم )) وقال تعالى (( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم لعنة ولهم سوء الدار )) وقال تعالى (( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا )) . وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ) ثلاثا قلنا بلى يا رسول الله قال ( الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) متفق عليه ... " . حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم :
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- : " باب تحريم العقوق وقطيعة الأرحام " : العقوق بالنسبة للوالدين، وقطيعة الأرحام بالنسبة للأقارب غير الوالدين.
والعقوق مأخوذ من العَق وهو القطع، ومنه سميت العقيقة التي تُذبح عن المولود في اليوم السابع، لأنها تُعَق: يعني تقطع رقبتها عند الذبح.
والعُقوق من كبائر الذنوب، لثبوت الوعيد عليه في الكتاب والسنة، وكذلك قطيعة الرحم .
قال الله تعالى: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ )) : يعني أنكم إذا توليتم أفسدتم في الأرض، وقطعتم الرحم، وحقت عليكم اللعنة، وأعمى الله أبصاركم، والمراد بالأبصار هنا البصيرة وليس بصر العين، المراد أن الله تعالى يعمي بصيرة الإنسان والعياذ بالله، حتى يرى الباطل حقاً والحق باطلاً.
وهذه عقوبة أخروية ودنيوية :
أما الأخروية: فقوله: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ )) .
وأما الدنيوية: فقوله: (( فَأَصَمَّهُمْ )) ، يعني: أصم آذانهم عن سماع الحق والانتفاع به، (( وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ )) عن رؤية الحق والانتفاع به.
وقال الله تعالى: (( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )) : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه أي : ميثاق العهد، توكيده، فينقضون العهد، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من القرابات وغيرهم، ويفسدون في الأرض بكثرة المعاصي : (( أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَار )) والعياذ بالله ، اللعنة يعني : الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وسوء الدار : أي سوء العاقبة.
وقال الله تبارك تعالى: (( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً )) :
فأمر الله بالإحسان إلى الوالدين، وقال : إن بلغا عندك الكبر أحدهما أو كلاهما يعني إما الأم أو الأب، أو الأم والأب، فضجرت منهما، لأن الإنسان إذا كبر قد يصل إلى الهرم وأرذل العمر فيُتعِب، فقال : حتى في هذه الحال لا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ ، أي لا تقل إني متضجر منكما (( وَلا تَنْهَرْهُمَا )) : عند القول، (( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً )) يعني: طيباً حسناً يدخل السرور عليهما، ويزيل عنهما الكآبة والحزن، (( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )) يعني: ذل لهما مهما بلغت لو كنت في أعلى كما تعلو الطيور، فاخفض لهما جناح الذل، وتذلل لهما (( من الرحمة )) : أي الرحمة بهما، (( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً )) : فارحمهما أنت، وادع الله أن يرحمهما.
هذا هو الذي أمر الله به بالنسبة للوالدين في حال الكبر، وأما في حال الشباب، فإن الوالد في الغالب يكون مستغنياً عن ولده ولا يهمه.
ثم ذكر المؤلف حديث أبي بكرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ) : هذا من أكبر الكبائر، الأول كبيرة في حقل الله الإشراك به ، والثاني في حق من هم أحق الناس بالولاية والرعاية، وهما الوالدان .
قال : ( وعقوق الوالدين ، وكان متكئاً فجلس ) : متكئاً معتمداً على يده، فجلس واستقام في جلسته قال: ( ألا وقول الزور وشهادة الزور ) .
هذه أيضاً من أكبر الكبائر، وإنما جلس النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا لأن هذا ضرره عظيم، وعاقبته وخيمة.
قول الزور يعني: الكذب، وشهادة الزور: الذي يشهد بالكذب والعياذ بالله، وما أرخص شهادة الزور اليوم عند كثير من الناس، يظن الشاهد أنه أحسن إلى مَن شهد له، ولكنه أساء إلى نفسه، وأساء إلى مَن شهد له، وأساء إلى من شهد عليه.
أما إساءته إلى نفسه: فلأنه أتى كبيرة من كبائر الذنوب والعياذ بالله، بل من أكبر الكبائر.
وأما كونه أساء إلى المشهود له، فلأنه سلطه على ما لا يستحق وأكّله الباطل.
وأما إساءته إلى المشهود عليه ، فظاهر فإنه ظلمه واعتدى عليه، ولهذا كانت شهادة الزور من أكبر الكبائر والعياذ بالله.
ولا تظن أنك إذا شهدت لأحد أنك محسن إليه، لا والله، بل أنت مسيء إليه، كثير من الناس الآن يشهد عند الحكومة في المسائل بأن فلان هو فلاناً وفلان مستحق، ويلبسون على الحكومة، يستعيرون أسماءً ليست بصحيحة، كل هذا من أجل أن ينالوا شيئاً من الدنيا، لكنهم خسروا الدنيا والآخرة بهذا الكذب والعياذ بالله.
وهذا الحديث يوجب للعاقل الحذر مِن هذه الأمور الثلاثة بل الأربعة: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور، وشهادة الزور، والله الموفق.