بيان الشيخ أن المسلمين يقتصد في سنة خير من أن يبتدع يشء وذكر أثر ابن مسعود رضي الله عنه: " اقتصاد في سنة خير من اجتهاد فيه بدعة " . حفظ
الشيخ : وجاء ما يشير إلى هذا -كما ألمحت آنفًا- قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا أيضًا: " اقتصاد في سنة خير من اجتهاد فيه بدعة " والسبب في هذا واضح جدًّا عند أهل العلم، لأن المقتصد في السنة في الإتيان ببعضها مأجور إذا كان في ذلك مُخلصًا عند الله تبارك وتعالى لاشك ولا ريب، وليس كذلك من اجتهد في الابتداع في الدين فذلك مردود على صاحبه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ )، لذلك كان قول ابن مسعود في منتهى الحكمة وفي منتهى الموعظة الحسنة حيث قال: " اقتصادٌ في سنة خير من اجتهاد في بدعة "، وهذا يعني أن المسلم مكفيٌ عن أن يُشغل عقله وفكره في أن يحدث في الدين ما لم يكن منه، ثم يجتهد هل هو حسنٌ فيعمل فيه، لا، لا حاجة إلى ذلك لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العبادات، تسع هذه العبادات أفضل الناس ولو كان داود -عليه الصلاة والسلام- الذي روى الإمام البخاري في * صحيحه * عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( كان داود أعبدَ البشر ) فلو كان داود -عليه الصلاة والسلام- من أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستطع أن ينهض بكل العبادات التي جاء بها -عليه الصلاة والسلام- تأكيدًا لما جاء في حديثين اثنين:
الحديث الأول: ما أخرجه الإمام مسلم في * صحيحه * عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( ما بَعث الله مِن نبي إلا كان حقًّا عليه أن يأمر أمته بخير ما يعلمه لهم ).
والحديث الثاني يتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاته حيث قال عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام الشافعي في *سننه* وغيره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( ما تركت شيًئا يقربكم إلى الله إلّا وأمرتكم به، وما تركت شيئًا يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه )، لذلك صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق " : فقد كفيتم أي: قد شرع لكم من العبادات ما يكفيكم ويزيد عليكم فما عليكم إلا الاتباع.
" اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق "، ولذلك جاء عن ابن مسعود أيضًا قصةٌ رائعة جدًّا فيها تطبيق منه -ابن مسعود أعني- لما سبق من الأحاديث والأثار الموثوقة، ذلك ما أخرجه الإمام الدارِمي في * سننه * بسنده الصحيح: " أنَّ أبا موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- جاء صباح يوم إلى ابن مسعود في داره، فوجد الناس ينتظرونه فقال لهم متسائلًا: أَخرجَ أبو عبد الرحمن؟ -كنية عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن- أخرج أبو عبد الرحمن؟ قالوا: لا، فجلس ينتظره إلى أن خرج، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن لقد رأيت في المسجد آنفًا شيئًا أنكرته، والحمد لله لم أر إلا خيرًا " :
أرجو الإنتباه للجمع بين قوله: والحمد لله لم أر إلا خيرًا، لكن قال: أنكرته كيف ينكر الخير، لأنه مما أحدث كما سيأتيكم البيان في تمام القصة إن شاء الله.
" قال ابن مسعود: وماذا رأيت ؟ قال: إن عشتَ فستراه! رأيت في المسجد حِلقًا حِلقًا وفي وسط كل حلقة منها رجل يقول لمن حوله: سبحوا كذا -أي: عددًا- واحمدوا كذا وكبروا كذا، وأمام كل رجل منهم حصى يعد به التسبيح والتكبير والتحميد، قال ابن مسعود: أفلا أنكرت عليهم؟ قال: لا، انتظار أمرك أو انتظار رأيك، فعاد ابن مسعود إلى داره وخرج متقنعًا -لا يعرف- حتى وقف على الحلقات التي وُصفت له، فلما رآهم كما قيل له كشف عن وجهه اللثام والقناع، وقال: ويحكم ما هذا الذي تصنعون أنا صحابيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذا حصى نعد به التسبيح والتكبير والتحميد، قال: عُدوا سيئاتكم وأنا ضامن لكم ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم ما أسرعَ هلكتكم، هذه ثيابه صلى الله عليه وآله وسلم لم تبلَ وهذه آنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده أإنكم لأهدى مِن أُمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو إنكم متمسكون بذنب ضلالة "، لا شك أن القضية الأولى مستحيلة أن يكونوا أهدى من جماعة الرسول عليه السلام فلم يبق إلا أنهم متمسكون لذنب ضلالة، " قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا الا الخير " : وهذا لسان المبتدعة جميعهم ما يريدون إلا الخير، ولكن شأنهم كما ستسمعون من كلام ابن مسعود الذي هو في منتهى الحِكمة قال: " وكم من مريد للخير لا يُصيبه "، كما قال الشاعر:
" ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها *** إنَّ السفينة لا تجري على اليبس ".