وعنها رضي الله عنها قالت : جاءت سهلة بنت سهيل فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن سالماً مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا ، وقد بلغ ما يبلغ الرجال ، فقال : ( أرضعيه تحرمي عليه ) . رواه مسلم . حفظ
الشيخ : ثم قال :
" وعنها رضي الله عنها قالت : ( جاءت سَهلة بنت سُهيل فقال : يا رسول الله إن سالماً مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا ، وقد بلغ ما يبلغ الرجال ، فقال : أرضعيه تحرمي عليه ) " :
قولها رضي الله عنها : ( سهلة بنت سهيل ) : هي زوجة نعم ؟ سهلة بنت سهيل نعم ، سهلة بنت سهيل هي زوجة أبي حذيفة رضي الله عنه ، أبي حذيفة بن اليمان وكان له مولى يقال له سالم ، تبناه وجعله ابنًا له ، وكانوا في الجاهلية يتبنى الواحد منهم من ليس له أحد مِن الموالي ونحوهم ، ويتخذه ابنًا له كابنه من النسب ، فنسخ الله عز وجل ذلك في قوله : (( وما جعل أدعياءكم أبناءكم )) ، قال : (( ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ )) : فلا يجوز في الإسلام أن يتبنى أحدٌ أحدًا من الناس ، لكن في الجاهلية كانوا يفعلون ذلك .
وكانوا قد جعلوا هذا الرجل بمنزلة الابن يدخل عليهم ويخرج ويقضي حوائجهم ويعمل كما يعمل الابن ، فلما تبين في الشرع أن الرضاعة لا تكون إلا في زمن معين ، جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : ( إنه معنا في بيتنا وقد بلغ ما يبلغ الرجال ) : فكأنها تقول : ما الحل لهذه المشكلة ؟ فقال : ( أرضعيه تحرمي عليه ) : أي تحرمي عليه نكاحًا فتكوني من محارمه ، وفي قوله : ( تحرمي عليه ) من حيث الإعراب نقول : إنها حذفت النون لأنها مجزومة على أنها جواب الأمر في قوله : ( أرضعيه ) ، فقال : ( أرضعيه تحرمي عليه ) .
ففي هذا الحديث : دليل على أن الرضاع محرم حتى للكبار ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( أرضعيه تحرمي عليه ) ، وقد أخذ بذلك أهل الظاهر ، وقالوا : إن الرضاع محرم بلا عدد ولا زمن ، لإطلاقه في الآية : (( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ )) ، ولحديث سالم مولى أبي حذيفة ، وكانت عائشة إذا أرادت من أحد أن يدخل عليها تأمر أختها أسماء بنت أبي بكر أن ترضعه ولو كان كبيرًا مِن أجل أن تكون عائشة خالة له ، فلا يجب عليها الحجاب عنه .
ولكن جمهور العلماء ومنهم أمهات المؤمنين سوى عائشة يقولون : إن هذا خاص بسالم مولى أبي حذيفة ، ومنهم مَن يرى أنه منسوخ ، ولكن تعلمون أن هاتين الدعويين تحتاجان إلى دليل :
أما الخصوصية فالأصل تساوي الناس في الأحكام الشرعية ، هذا هو الأصل ولا تقبل دعوى الخصوصية إلا بدليل ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو النبي لا تقبل دعوى الخصوصية فيه في أي حكم من الأحكام إلا بدليل فما بالك بمن سواه ؟!
والنسخ كذلك يحتاج إلى دليل ، لأنه لا بد أن نعلم أن هذا الحديث الناسخ متأخر .
ومن يقول : إن قوله : ( إنما الرضاعة من المجاعة ) متأخر عن قوله : ( أرضعيه تحرمي عليه ) من قال هذا ؟ ومن يقول : إنه قال : ( لا تحرِّم المصة والمصتان ) بعد قوله : ( أرضعيه تحرمي عليه ) حتى نقول : إن هذا الحديث يدل على أنه لا يشترط عدد ولا زمن .
ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنه خاص بمولى أبي حذيفة على وجه دقيق ، وقال : إنه إذا وُجد من حاله كحال هذا الرجل فإن حكم هذا الرجل يثبت له ، لأن الأحكام الشرعية لا يمكن أن تخصص بأحد بعينه إلا لسبب ، فإذا وجد هذا السبب في غيره ثبت للغير حكم التخصيص ، وقالوا : إن الحاجة تبيح إرضاع الكبير ليكون محرمًا ، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام أبن تيمية -رحمه الله- في موضع من كلامه ، وقال : " إن المرأة إذا احتاج الرجل إلى الدخول عليها دائمًا فإنها ترضعه ويكون ولدًا لها " ، لأن سهلة بنت سهيل شكت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الحاجة ، وقال في موضع من كلامه : " إنه إذا وجدت حالة مثل حالة سالم مِن كل وجه ثبت الحكم ، وإلا فلا " : وهذا الأخير هو الصحيح ، وقوله الأول أنه مطلق الحاجة ، مردود ، مردود بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إياكم والدخول على النساء . قالوا : يا رسول الله أرأيت الحمو ؟ قال : الحمو الموت ) ، ولو كان الإرضاع لمطلق الحاجة مثبتًا للمحرمية لقال : الحمو ترضعه زوجة قريبه ، ويزول المحذور ، فلما لم يقل ذلك مع دعاء الحاجة إليه ، عُلم أن مطلق الحاجة لا يبيح أو لا يثبت به حكم الرضاع .
إذا أخذنا بالقول الثاني من أقوال شيخ الإسلام -رحمه الله- أو من قوليه ، فإن الحالة التي صارت لسالم لا يمكن أن توجد ، لأن سالما كان متبنى ومتخذًا ابنًا كابن النسب لا يحتشمون عنه بأي شيء من الأشياء ، وكان قد داخلهم مداخلة كاملة ، ففي هذه الحال يكون من الصعب جدًا أن يحرم من الدخول إلى البيت والخلوة بالمرأة وما أشبه ذلك ، فمن أجل هذه الحاجة الشديدة ووجود السبب المقتضي لها قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أرضعيه تحرمي عليه ) ، وبهذا تجتمع الأدلة ونسلم من القول بأن إرضاع الكبير للحاجة مطلق الحاجة جائز ، ومثبت للحكم .