تتمة فوائد حديث : ( أرضعيه تحرمي عليه ) . حفظ
الشيخ : في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة سَهلة بنت سُهيل من الفوائد :
أولاً : حرص الصحابة رضي الله عنهم على تعلم العلم رجالا ونساءً ، وجه ذلك أنها سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه القضية .
ومن فوائد هذا الحديث : أنَّ صوت المرأة ليس بعورة ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينهها عن ذلك .
ومن فوائد الحديث أيضًا : جواز إرضاع الكبير وأنه مؤثر ، لقوله : ( أرضعيه تحرمي عليه ) .
ومن فوائد الحديث : أن ارتكاب المحرم لغيره إذا دعت الحاجة إليه فلا بأس به ، لقوله : ( أرضعيه ) ، فإنه قبل أن يكون ولدا لها لا يحل له أن يمس ثديها مثلا ، وهنا إذا أرادت الرضاعة فلا بد أن يمس ثديها ويرضع منه ، لكن للحاجة جاز ، فهذا وسيلة لأمر يُحتاج إليه ، وأصل تحريم مس المرأة أنه وسيلة إلى الفاحشة والزنا ، " وما حرم تحريم الوسائل فإن القاعدة عند أهل العلم : أنه يباح عند الحاجة " .
طيب ونظير ذلك من بعض الوجوه إذا أصاب المحرم طيب وهو محرم فلا حرج عليه أن يمسه من أجل إزالته .
ومِن ذلك أيضًا أن الإنسان يمس الخبث في الاستنجاء بيده من أجل إزالته . ومِن ذلك أيضًا أنَّ الغاصب يخرج من الأرض المغصوبة فيمشي فيها من وسطها إلى طرفها وهو مشي محرم ، لأنه في غير ملكه لكن من أجل التخلص مِن هذا ، فالتخلص مِن الشيء المحرم إذا سار الإنسان به فإنه لا يعتبر محرمًا لأنه للخلاص منه ، وكذلك : " ما حَرُم تحريم الوسائل فإنه تبيحه الحاجة " .
ومن فوائد حديث عائشة هذا في قصة سالم مولى أبي حذيفة : أن إرضاع الكبير مؤثر ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أرضعيه تحرمي عليه ) ، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه لا عبرة برَضاع الكبير .
والقول الثاني : أنه مُعتبر .
والقول الثالث : أنه معتبر عند الحاجة إليه ، لا إذا لم يكن هناك حاجة . فالأقوال ثلاثة : أما الذين قالوا : إنه مؤثر فاحتجوا بهذا الحديث : ( أرضعيه تحرمي عليه ) ، مع أنها تقول : بلغ ما يبلغ الرجال ، واستدلوا أيضًا بعموم قوله تعالى : (( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم )) ، وهذا مطلق : (( أرضعنكم )) لم يقيد بزمن ولا بحال ، فيكون الإرضاع مؤثراً مطلقاً ، أهكذا يا بدر ؟ أهكذا ؟ ما هو ؟
الطالب : قالوا : بأن إرضاع الكبير يثبت .
الشيخ : ويش آخر ما ذكرنا من أدلتهم ؟
الطالب : ذكرنا قول الله تعالى : (( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم )) .
الشيخ : نعم ، فإنه مطلق لم يقيد بزمن ولا حال ، فيكون على إطلاقه .
وأما القائلون بأنه لا يؤثر ولا عبرة به فاستدلوا بأدلة منها : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنما الرضاعة من المجاعة ) وسبق معنى الحديث .
ومنها : الأحاديث الآتية : ( لا رضاع إلا ما أنشز العظم وكان قبل الفطام ) ، ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إياكم والدخول على النساء . قالوا : أرأيت يا رسول الله الحمو ؟ قال : الحمو الموت ) ، ولم يقل : الحمو ترضعه المرأة ، حتى يكون محرَمًا لها مع أن الحاجة داعية إلى أن ترضعه ليدخل البيت ويسلم من الشر ، وحينئذٍ تثبت دعواهم أنه لا تؤثر رضاع الكبير ، لكن يحتاجون إلى إيش ؟ إلى الجواب عن أدلة القائلين بأنه مؤثر ، فأجابوا عن إطلاق الآية بأن هذه ليست أول آية أُطلقت ثم قُيدت بالسنة ، فقوله تعالى : (( وءاتوا حقه يوم حصاده )) : مقيد بقوله عليه الصلاة والسلام : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) ، والأمثلة على هذا كثيرة .
والسنة تبين القرآن وتفسره وتعبر عنه وتقيد مطلقه وتخصص عامه ، وليس هذا بغريب .
فالآية مطلقة ويكون المراد : (( أرضعنكم )) أي : إرضاعا محرِما حسب ما تقتضيه السنة .
وأما حديث سالم فأجابوا عنه بأنه خاص ، خاص بسالم ، وهذا مبني على جواز تخصيص الشخص بعينه أو لعينه ، قالوا : فهو خاص به فلا يلحق به غيره .
وأجاب بعضهم بأنه منسوخ بالأحاديث الدالة على أنه لا بد أن يكون الرضاع في الحولين ، أو في زمن المجاعة ، أو قبل أن يفطم ، فقالوا : إن هذا منسوخ بهذا .
وأما الذين قالوا بأنه جائز للحاجة فجمعوا بين الأدلة وقالوا : إن قضية سالم حاجة فلهذا أرشدها النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن ترضعه ، ولم يرشد غيرها إلى ذلك ، لأنه لا يوجد فيه مثل حاجة هذا الرجل : إذ أن هذا كان كالابن لهم تمامًا قد تبناه أبو حذيفة وصار عندهم بمنزلة الولد ، ويشق عليهم كثيرا أن يحتجبوا منه ، فلهذا أذن فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وما أكثر الأحكام التي تثبت عند الحاجة التي تشبه الضرورة لقوم ، وتمنع من قوم آخرين لم يتحقق لهم مثل ذلك .
وهذا الأخير اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ، وبه تجتمع الأدلة ، ويجيب عن دعوى التخصيص : " بأنه ليس هناك حكم يخص به أحد لعينه ، لأن الناس عند الله سواء ، فلا يمكن أن يخص زيدا دون عمرو لغير سبب معنوي يقتضي التخصيص " ، ولو تأملت هذا لوجدته لا يوجد في الشريعة من خصص بالحكم لعينه أي : لأنه فلان ابن فلان ، حتى الرجل الذي ضحى قبل الصلاة ، وقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( شاتك شاة لحم، قال : إن عندي عناقا ) -يعني ماعزا لها أربعة أشهر أو نحو ذلك هي أحب إلينا من شاتين- فأذن له أن يضحى بها وقال : ( إنها لن تجزئ عن أحد بعدك ) ، ( لن تجزئ عن أحد بعدك ) ، والحديث في * الصحيحين * ، وهذا يدل على أن الرجل خص بذلك بعينه ، ولكن شيخ الإسلام أبى ذلك وقال : " هذا الرجل لا يخص بعينه لماذا لا يخص ؟ بل يقال : من كانت حاله مثل حاله فحكمه حكمه ، فلو وجد رجل جاهل ضحى بأضحيته قبل الصلاة ولم يكن عنده ما يضحي به إلا مثل هذه العناق قلنا : إنها تجزئ عنك ، ولو كانت لم تبلغ السن " ، لم تكن ثنية ، وهذا الذي قاله هو المتعين ، حتى خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام لم يخصص بها لأنه محمد بن عبد الله ، لكن خص بها لأنه رسول الله ، فله وصف لا يكون لغيره ، فلهذا خص بما يقتضيه هذا الوصف ، وما قاله -رحمه الله- هو الراجح ، أنه لا تخصيص لأحد بعينه في حكم من أحكام الشريعة ، لأن الشريعة معلقة بالحكم والأسرار والمعاني والعلل لا بالأشخاص.
وعلى هذا فنقول : القول الراجح في هذا ما اختاره شيخ الإسلام .
بقينا في الجواب عن النسخ عن دعوى النسخ :
دعوى النسخ كما نعلم أو كما تعلمون لا تقبل إلا بشرطين :
الشرط الأول : عدم إمكان الجمع . والشرط الثاني : العلم بالتاريخ .
فإذا أمكن الجمع فلا نسخ ، لأن النسخ يستلزم إبطال أحد النصين ، وإبطال النص ورد النص ليس بالأمر الهين ، يعني كثير من العلماء -عفا الله عنهم- إذا عجزوا عن الجمع بين النصين قالوا : منسوخ ، هذا لا يجوز ، لأن حكمك أن هذا الحكم منسوخ يعني ردك وعدم اعتباره من الشرع ، فليس بالأمر الهين ، فلا يجوز أن نتساهل في ادعاء النسخ ، نقول : النسخ لا يمكن قبوله أو لا يمكن دعوى قبوله إلا بإيش ؟ إلا بأمرين ، بشرطين :
أولا : تعذر الجمع . والثاني : العلم بالمتأخر ، لأن الناسخ هو المتأخر ، فإذا أمكن الجمع حرُم العدول عنه ، وإذا تعذر الجمع نظرنا ، إذا علمنا بالتاريخ قلنا المتأخر الناسخ ، وإذا لم نعلم وجب علينا أن نتوقف .
فنأخذ الحكم الذي لا يتعارض فيه النصان وندع ما تعارض فيه النصان ، هذا هو الواجب اتباعه في نصوص الشرع ، وعلى هذا فتكون دعوى النسخ في حديث سالم إيش ؟ مردودة غير مقبولة ، فيبقى عندنا يصح دعوى التخصيص لكن لا بشخصه بل بحاله ، تخصيص بالحال لا بالشخص ، فمن كانت حاله كحال هذا الرجل فإننا نفتيه بما أفتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أفتى به سهلة .
ومن فوائد هذا الحديث : التكنية عن الشيء بلازمه ، في قولها : ( وقد بلغ ما يبلغ الرجال ) : لم تقل : إنه بلغ أن ينظر للمرأة لشهوة أو ما أشبه ذلك ، تكنية طيبة وتفيد المعنى .
ومن فوائد الحديث : أنه ينبغي للمستفتي أن يذكر جميع أوصاف القضية من أجل أن يفتيه المفتي على بصيرة ، مثل قولها : ( معنا في بيتنا ) ، لأن هذا وصف يقتضي ترتَّب الحكم عليه ، فلا ينبغي للمستفتي أن يأتي بالشيء المجمل بل يأتي بالشيء البين الذي تختلف فيه موارد الحُكم حتى يكون المفتي على بصيرة ، ومن ذلك لو قال لك قائل :
هلك هالك عن بنت وأخ وعم ، عن بنت وأخ وعم شقيق ، فهنا لا يجب عليك أن تسأل عن البنت ما يحتاج تقول ما هي البنت ؟ أو يجب أن تقول هي شقيقة أو لأب أو لأم ؟
الطالب : إذا أُطلقت فهي شقيقة !
الشيخ : إذا أطلقت فهي شقيقة ؟!!! هههه آه ، بنت ، بنت !! وأخ وعم شقيق ، هل يجب أن تستفصل عن البنت ؟
الطالب : لا .
الشيخ : لا ، البنت ما فيها شقيق ولا لأب ولا لأم ، طيب الأخ هنا يجب أن تستفصل تقول ما الأخ ؟ إن قال لك : لأم ، فما بقي بعد البنت للعم لماذا ؟ لأن الأخ من الأم يسقط بالفرع الوارث ، وإن قال : أب لأب أو شقيق يأخذ الباقي ويسقط العم ، هذا لا بد منه ، لا بد أن يقول السائل : إنه أخ شقيق أو لأب أو لأم فإن لم يقل وجب على المفتي أن يسأل لأنه يترتب الحكم على معرفته ، وهنا نسأل هل يجب على المفتي أن يسأل عن الموانع ؟
الطالب : لا .
الشيخ : نعم ؟
الطالب : لا يجب .
الشيخ : لا يجب ، لا يجب أن يسأل عن الموانع ، فلا يجب عليه أن يقول : هل البنت موافقة لأبيها في الدين ؟ لا ، لا يجب ، هل يجب عليه أن يقول : هل البنت رقيقة وأبوها حر ؟ لا يجب ، لأن الأصل عدم المانع ، وكذلك لو جاء رجل يقول : إنه طلق زوجته هل يجب أن نقول : طيب بأي شرط ثبت أنها زوجتك ؟ هل أنت تزوجتها بشهود وبولي وبرضا وبتعيين أو لا يجب ؟ لا يجب لأن الأصل الصحة وثبوته على وجه شرعي .
هل يجب أن يقول : هل هي حائض أو لا ؟ لا يجب ، لا يجب لأن هذا سؤال عن المانع فلا يلزمه .
اللهم إلا أن يكون المانع يعني خفيا على الناس فهنا ربما نقول : نسأل : هل هي حائض ؟ هل هي في طهر جامعتها فيه أو ما أشبه ذلك ، لكن الأصل أنه لا يسأل عن المانع .
ومن فوائد الحديث : أن الرضاع لا يشترط له عدد ، لقوله : ( أرضعيه ) ولم يحدد ( تحرمي عليه ) فلا يشترط له عدد ، ولا يشترط له كيفية ، بمعنى أنه لا يشترط الإرواء لا كمية ولا كيفية لقوله : ( أرضعيه ) ، ولكن يقال : إن هذا الإطلاق مقيد بالأحاديث الأخرى الدالة على أنه لا بد من عدد ، ففي الحديث الذي روته عائشة نفسها أول الباب : ( لا تحرم المصة ولا المصتان ) : فيكون هذا المطلق محمولا على المقيد .
فإن قال قائل : أفلا يمكن أن يكون مثل هذه الحال يكفي فيها قضاء واحد ؟ قلنا : لا ، لأن السنة يقيد بعضها بعضا ، فلا بد من العدد المشترط .
طيب ومن فوائد الحديث : أن مَن حرُمت عليه المرأة فله أن ينظر إليها ، وأن إباحة النظر وتحريم النكاح متلازمان لقوله : ( أرضعيه تحرمي عليه ) ، ولم يقل أرضعيه تحلي له ، أي : يحل له النظر إليك ، لم يقل : أرضعيه يحل له النظر إليك مع أن المشكلة في إيش ؟ ليس فيه أنها تحرم عليه لأنه لا يمكن يتزوجها وهي مع زوج ، المشكلة في النظر والخلوة ، لكن لما كان تحريم النكاح يلزم منه إباحة النظر والخلوة قال : ( أرضعيه تحرمي عليه ) ، وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَدَل إلى هذا الحكم لأنه موافق للقرآن ، قال الله تعالى : (( حرِّمت عليّكم أمهاتكم وبناتكم )) إلى قوله : (( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم )) : فعدل النبي عليه الصلاة والسلام عن ذاك إلى هذا لأنه موافق لكتاب الله عز وجل .