فوائد حديث ( إذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ...). حفظ
الشيخ : فإنّ فيه فوائد كثيرة:
أوّلا قوله: ( إذا رأيتموه ) يستفاد منها أنّه لا يجب الصّوم قبل رؤيته لقوله: ( إذا رأيتموه ).
ثمّ ما المراد بالرّؤية، هل الرّؤية قبل الغروب أو بعد الغروب؟
نعم، من المعلوم أنّ القمر آية ليليّة فيكون المعنى إذا رأيناه في اللّيل الذي هو سلطانه كما قال تعالى: (( وجعلنا اللّيل والنّهار آيتين فمحونا آية اللّيل وجعلنا آية النّهار مبصرة )) ، فإذا رؤي بعد الغروب ثبت الحكم، أمّا إذا رؤي قبل الغروب فقال بعض العلماء: إنّه يكون لليلة الماضية وبعضهم يقول لليلة المقبلة، ولا شكّ أنّ هذا فيه نظر، لأنّه إذا رؤي قبل الغروب متقدّما على الشّمس فإنّه لا يمكن أن يكون لليلة الماضية، وإلاّ لا؟
وإذا رؤي متأخّرا عن الشّمس فإن كان التّأخّر بعيدًا فإنّه يكون لليلة المقبلة ومع ذلك لا نحكم به قد يكون عند الغروب هناك غيم أو قتر ولا نراه فنكمل العدّة ثلاثين، لكنّه في الغالب لا يخفى، المهمّ أنّ الرّؤية متى؟
إذا كانت بعد الغروب لأنّه أي اللّيل هو سلطان القمر.
وقوله: ( إذا رأيتموه ) يستفاد منه أنّه لا بدّ من تحقّق الرّؤية أليس كذلك؟
( إذا رأيتموه ) أمّا إذا شككنا في ذلك فإنّه لا يجب الصّوم بل من صام فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم .
ويدلّ على أنّ المراد بالرّؤية اليقين، الرّؤية العينيّة المتيقّنة قوله تعالى في سورة البقرة: (( فمن شهد منكم الشّهر فليصمه )).
ومن فوائد الحديث: أنّ الإنسان إذا رآه ولم يره غيره ثبت الحكم في حقّه، فإن كان في رمضان يعني رأى هلال رمضان وغيره لم يره والحاكم ردّ شهادته لجهله بحاله مثلا فإنّه يصوم، وإن كان في شوّال فقيل: إنّه لا يصوم لأنّ الشّهر شرعا أي شهر شوّال لا يدخل إلاّ بشهادة رجلين، وقيل: بل يفطر، أنا قلت في الأوّل؟
الطالب : قلت: لا يصوم.
الشيخ : لا يصوم؟
الطالب : نعم.
الشيخ : خطأ، إذا رآه الإنسان وحده أي: رأى شوّال وحده، فقيل: إنّه لا يفطر، لأنّ شوّالا لا يثبت إلاّ بشهادة رجلين وهو رجل واحد فدخول الشّهر إذن لم يثبت فلا يجوز الفطر.
وقال بعض العلماء: بل يجب عليه الفطر لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ( إذا رأيتموه فأفطروا ) وهذا قد رآه، لكن يفطر سرّا، لأن لا يجاهر بمخالفة الجماعة فصار لدينا قولان: إذا رأى وحده هلال شوّال القول الأوّل: أنّه لا يفطر لأنّ شوّالا لا يثبت دخوله إلاّ بشهادة رجلين، واستدلّوا أيضا بحديث: ( الصّوم يوم يصوم النّاس والفطر يوم يفطر النّاس والأضحى يوم يضحّي النّاس ). والقول الثاني: أنّه يفطر لأنّه رآه وقد قال النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ( إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ) ولكنّه يفطر سرّا لئلاّ يجاهر بمخالفة الجماعة، وهذا القول أقرب من حيث اللّفظ: ( إذا رأيتموه ) لأنّ هذا رآه.
أمّا إذا كان الإنسان منفردا في مكان وليس حوله أحد يخالفه فإنّه يُفطر لأنّه حينئذ لا يتيقّن مخالفة الجماعة، مثل لو كان بدويّا في محل في البرّ وليس حوله مدن ولا قرى ورأى هلال شوّال، فإنّه لا يمكن أن نقول: صم، لأنّه ثبت دخول الشّهر في حقّه وهو إذا أفطر لا يكون مخالفا للجماعة هكذا قال أهل العلم، ومعلوم أنّ هذا في وقتهم أمر واقع وكثير، لكن في وقتنا الآن حيث انتشرت وسائل الإعلام قد يقال: إنّه لا يفطر حتى ينظر عن إفطار النّاس على القول بأنّه لا يفطر إذا انفرد برؤيته، أمّا إذا قلنا إنه يفطر فالأمر واضح. طيب ظاهر الحديث: ( إذا رأيتموه ) يشمل ما إذا رأيناه بالعين المجرّدة أو بواسطة الآلات؟
الطالب : الأصل بالعين.
الشيخ : هاه؟
الطالب : الأصل بالعين.
الشيخ : هو عامّ: ( إذا رأيتموه ) فمتى رأيناه سواء بالعين المجرّدة أو بالمنظار المكبّر فإنّه تثبت رؤيته، وقد كان النّاس قديما نعهدهم يصعدون على المناير ومعهم الدّاربيل أو على الأصحّ مكبّر النّظر.
الطالب : مقرّب.
الشيخ : أو مقرّب النّظر، سمّوه ما شئتم، المهمّ أنّهم كانوا يستعملونها وإذا رأوه بواسطة هذه المنظارات فإنّه يحكم برؤيته والحديث عامّ، الحديث ليس فيه إذا رأيتموه ومعلوم أنّه حتّى لو قال: إذا رأيتموه بأعينكم فلا يمنع أن يكون رآه بواسطة أو مباشرة.
طيب الحديث: ( إذا رأيتموه ) فهل المراد إذا رآه كلّ واحد؟
لو كان كذلك لكان الذي نظره قاصرًا لا يجب عليه الصّوم ولو رآه النّاس، لأنّه يقول: ما رأيته أنا، ولكنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام لا يريد هذا، ولكن إذا رأيتموه الرّؤية التي يثبت بها دخوله شرعًا وهو: أن يكون الرّائي رجلين فأكثر لقول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ( وإن شهد شاهدان فصوموا وأفرطوا ) ، ولكن يأتي إن شاء الله الخلاف فيما إذا رآه واحدا.
طيب ويستفاد من قوله: ( إذا رأيتموه ) أنّه إذا رُؤي في بلد واحد لزم النّاس كلّهم الصّوم لأنّنا ما دمنا نقول: إنّه لا يشترط أن يراه كلّ واحد فإنّه يستفاد منه وهذه متفرّعة على التي قبل أنّه إذا رآه واحد أو إذا ثبتت رؤيته بمكان لزم الصّومُ جميعَ النّاس، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وقول كثير من أهل العلم.
ولكن عارضهم شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة وقال: إنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام قال: ( إذا رأيتموه ) والجماعة البعيدون عن مطلع الهلال في هذا المكان لم يروه لا حقيقة ولا حكمًا، وقول الرّسول: ( إذا رأيتموه ) كقوله صلّى الله عليه وسلّم: ( إذا أقبل اللّيل من هاهنا وأدبر النّهار من هاهنا وغربت الشّمس فقد أفطر الصّائم )، فهل أنتم تقولون: إذا غربت الشّمس عند قوم جاز للآخرين أن يفطروا ولو كانت الشّمس لم تغب؟ الجواب؟
الطالب : لا.
الشيخ : لا، ولم يقل بذلك أحد، إذن إذا رأيناه في مكان ولم ير في مكان آخر بعد التّحرّي والبحث فإنّه لا يلزم من لم يره، لأنّ هذا : ( إذا أقبل الليل من هاهنا ) توقيت يومي ، ( وإذا رأيتموه ) توقيت؟
الطالب : شهري.
الشيخ : شهري، ولا فرق بينهما، فالشّهر عند من لم يروه لم يدخل، والله عزّ وجلّ يقول: (( فمن شهد منكم الشّهر فليصمه )) وهؤلاء الذين يخالفون من رأوه في المطالع ما شهدوه وعلى هذا فلا يلزمهم الصّوم.
واستدلّوا أيضا، ودلالة الحديث على قولهم ودلالة الآية أيضا واضحة، واستدلّوا أيضا، استدلّوا بحديث رواه مسلم : ( عن كريب أنّ أم الفضل أرسلته في حاجة إلى معاوية، ومعاوية في الشّام، فرأوا الهلال في الشامّ فصاموا وكان ممّن رآه كُرَيب، رأوه ليلة الجمعة، ثمّ إنّ كريبا قضى حاجته من الشّامّ ورجع إلى المدينة والتقى بابن عبّاس رضي الله عنهما فسأله ابن عبّاس متى صام معاوية؟ قال: صام يوم الجمعة، قال: هل رأى الهلال؟ قال: نعم، وأنا رأيته أيضا، فقال: إنّا لم نصم إلاّ يوم السّبت، فقال له: ألا تكتفي برؤية معاوية؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ) ، وهذا نصّ صريح من ابن عبّاس رضي الله عنهما تفقّهاً واستنباطاً، استنباطا من أين؟
من قوله: ( إذا رأيتموه ) وهذا دليل واضح في الموضوع، والقياس على التّوقيت اليومي أيضا دليل واضح، والخطاب في (( فمن شهد منكم الشّهر ))، ( وإذا رأيتموه ) أيضًا واضح ولهذا كان الصّواب ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " أنّه إن اتّفقت المطالع لزم الصّوم والفطر وإلاّ فلا "، وهذا أحد القولين، فعندنا الآن قولان:
القول الأوّل: إذا ثبتت رؤيته في مكان ثبت ذلك في حقّ جميع النّاس في أيّ مكان كان.
الثاني: إذا ثبتت رؤيته في مكان لزمهم حكم تلك الرّؤية من فطر أو صوم، ولزم من يشاركهم في مطالع الهلال دون من لم يشاركهم، وهذا أقرب إلى الصّواب إن لم يكن هو المتعيّن.
القول الثالث: أنّه إذا كانت المسافة بين البلدين مسافة قصر، فإنّه لا يلزم البلد الآخر قالوا: لأنّ ما دون المسافة في حكم الحاضر، وما وراءها في حكم المسافر، فإذا كان بين البلدين أقلّ من المسافة لزم البلد الثاني الصّوم إذا رآه البلد الآخر، وإن كان بينهما مسافة قصر فلا.
والقول الرّابع: أنّ الصوم والفطر تبع للعمل أي: عمل وليّ الأمر، فإذا كانت هذه المنطقة تبعا لأمير معيّن فلها حكم واحد، وعلّلوا ذلك بأن لا يحصل الاختلاف بين من كانوا تحت إمرة واحدة، لأنّه إذا حصل الاختلاف بين من كانوا تحت إمرة واحدة حصل النّزاع والتّفرّق، فهذه أربعة.
والقول الخامس: أنّه إذا كان بينهما قُطر أو أقطار يعني: إذا كانت منطقة كبيرة مو بلد يعني تبع الأقطار والمناطق الكبيرة فإنّهم إذا كانوا في قُطر واحد لزمهم الصّوم وإن لم يكونوا في قطر واحد فلكلّ قطر حكمه.
على كلّ حال كلّ ما سوى القولين الأوّلين فهي أقوال ليست بتلك القوّة، إلاّ أن يقال: إنّه إذا كانوا تحت إمرة واحدة فإنّه يلزم الصّوم أو الفطر لحديث: ( الفطر يوم يفطر النّاس والصّوم يوم يصوم النّاس ) فتكون الأقوال الرّئيسيّة التي يمكن أن نعتبرها ثلاثة أقوال:
القول الأوّل: لزوم الصّوم على جميع النّاس، والثاني: لزوم الصّوم على من وافقهم في المطالع، والثالث: لزوم الصّوم إذا كانوا تحت إمرة واحدة، لحديث: ( الصوم يوم يصوم النّاس والفطر يوم يفطر النّاس ).
ما هو عمل النّاس اليوم؟
الطالب : الثالث.
الشيخ : هاه؟
الطالب : الثالث.
طالب آخر : الثاني.
الشيخ : الغالب عمل النّاس اليوم على الأخير.
الطالب : الثالث.
الشيخ : الغالب أنّه على الأخير، ولهذا تجد قريتين على الحدود بينهما أمتار قليلة، قرية صامت وقرية لم تصم، وقرية أفطرت في العيد وقرية لم تفطر، لأنّ هذه تحت ولاية وهذه تحت ولاية.
بل نجد أنّه أحياناً إذا حسنت العلاقات بين الدّولتين اتّفقتا، وإذا ساءت لم تتّفقا، فيجعلون الحكم تبعاً للسّياسة، إن حسنت العلاقات قالوا: والله هذه البلد أهلها ثقات ويجب أن نعمل برؤيتهم يلاّ أصدروا الفتوى بالفطر أو بالصّوم، وإن ساءت قالوا : كلّ له بلده وله رؤيته ولا يمكن أن نتبعهم، وهذا شيء شاهدناه بأنفسنا نحن، يعني علمنا به مباشرة بدون نقل.
على كلّ حال القول الصّحيح عندي هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية لأنّه مؤيّد بظاهر القرآن والسّنّة وبما روي عن الصّحابة رضي الله عنهم.
طيب من فوائد الحديث: أنّ هذه الشّريعة والحمد لله لم تدع مجالا للقلق والإضطراب كيف ذلك؟
لقوله ( فإن غمّ عليكم فاقدروا له )، أو: ( أكملوا العدّة ثلاثين ) فإنّ هذا ممّا يريح الإنسان يعني لا تكن قلقا تقول ربّما هلّ ولكنّه تحت السّحاب، ربّما أنّه هلّ ولكنّه وراء الجبل، ربّما أنّه هلّ ولكنّه حجبه القتر، أبدًا لا تقلق، إذا لم تر الهلال لكونه غمّي عليك فأكمل العدّة ثلاثين بدون قلق، وهكذا ينبغي للإنسان أن لا يجعل في نفسه قلقا من الأحكام الشّرعيّة حتى في مسائل الفتاوي، لا ينبغي لك أن تضع المستفتي في قلق وحيرة فتقول: يمكن كذا، يمكن كذا، يحتمل كذا يحتمل كذا، إمّا أن يكون عندك علم يقيني أو ظنّي لأنّ الصّحيح أنه يجوز الحكم بغلبة الظّنّ عند تعارض الأدلّة: (( لا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها ))، وتجزم بالفتوى ، وإلاّ فدعها ، وأمّا أن تبقى في حيرة وتوقع أيضا غيرك في حيرة فهذا لا ينبغي.
ومن فوائد الحديث: البناء على الأصل، يعني اعتبار البناء على الأصل من أين يؤخذ؟
الطالب : ( فاقدروا له ).
الشيخ : من قوله: ( فاقدروا له ) أو: ( أكملوا العدّة ثلاثين )، لأنّ الأصل بقاء الشّهر، فإنّ يوم الثّلاثين من الشّهر حتى نتيقّن أنّه دخل الشّهر التّالي، وهذا جزء أو فرد من أفراد عظيمة دلّت عليها أحاديث كثيرة، وهي: أنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يتبيّن زواله.
طيب وقوله: ( إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ) : لو قال قائل: رأيتموه الميم علامة الجمع، ولا بدّ من أن يكون الرّائي جماعة، أكثر من واحد، نعم، لو قال قائل هكذا، قلنا: لنستمع إلى الحديث الذي بعده.