وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين فإنك تواصل يا رسول الله ؟ فقال : وأيكم مثلي ؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ، فلما أبو أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ، ثم يوماً ، ثم رأوا الهلال ، فقال : لو تأخر الهلال لزدتكم ، كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا ). متفق عليه . حفظ
الشيخ : " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ) " :
قال: ( نهى عن الوصال ) النّهي: هو طلب الكفّ على وجه الاستعلاء، والمراد بقولنا: على وجه الاستعلاء ليس معناه أنّ الرّسول يتصوّر نفسه عاليا على غيره، لا، هو من أشدّ النّاس تواضعا، لكن يتصوّر الآمر أنّ المأمور مطيع له هذا معنى الاستعلاء، وأنّه يوجّه الأمر إليه.
الوصال: مصدر واصل يواصل، كقاتل يقاتل قتالا، واصل يواصل وصالا ويصلح مواصلة؟
الطالب : نعم يصلح.
الشيخ : يصلح كمقاتلة، فما هو الوصال؟
الوصال لغة: وصل الشّيء بالشّيء، وفي الشّرع: " وصل يوم بآخر في الصّيام " هذا الوصال هنا.
" ( فقال رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله ) " :
يعني تصل يوما بيوم وكيف تنهى عن ذلك؟ وهل يليق أن يفعل الرّجل ما ينهى عنه؟
لا، ويحتمل أن يكون السّائل أراد معرفة الحكمة في كون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ينهى عن الوصال وهو يواصل، وأيّا كان فإنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أجابه بجواب يتبيّن به الفرق، فقال:
( وأيّكم مثلي؟ ): الإستفهام هنا للنّفي، يعني لستم مثلي في الصّبر والتّحمّل وما يحصل لي من الإستغناء عن الأكل والشّرب.
قال: ( إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ) اللهمّ صلّ وسلّم عليه، أبيت يعني: البيات النّوم ليلا.
وقوله: ( يطعمني ربّي ويسقيني ) هذه ليست كقول إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام: (( والذي هو يطعمني ويسقين )) ، لأنّ المراد بذلك في قول إبراهيم الطّعام الحسّي والسّقي الحسّي، هنا يطعمني ويسقيني ليس المراد به الطّعام الحسّي والسّقي الحسّي، إذ لو كان كذلك لم يكن مواصلا، ولم يكن بينه وبين النّاس فرق، لكن المراد طعام وسقي غير الطّعام والسّقي المعهود فما هو؟
قيل: إنّه طعام من الجنّة، وأنّ الطّعام من الجنّة والسّقي من الجنّة ليس كطعام الدّنيا فهو لا يفطّر الصّائم ولو كان طعاما وسقيا، وحينئذ يلغز بها فيقال: طعام وشراب لا يفطّر، ولكن هذا فيه نظر، لأنّ الطّعام والشّراب في الآخرة من الجنّة لا يكون إلاّ بعد دخول الجنّة.
نعم والنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أراد أن يأخذ عنقودا من الجنّة في صلاة الكسوف ولكنّه بدا له أن لا يفعل فتركه.
والقول الثّاني في المسألة: أنّ المراد بالطّعام والسقي هنا ما يحصل للقلب من الغذاء بذكر الله عزّ وجلّ والانشغال بذكره عمّا سواه، والانشغال بالشّيء يعني انشغال الرّوح بالشّيء وتعلّقها به لا شكّ أنّه يشغلها عن حاجات البدن الماديّة الحسّيّة، إنّما نحن الآن لو ننشغل بشغل شاغل حقيقيّ لكنّا نذهل عن إيش؟
الطالب : عن الطّعام.
الشيخ : عن الأكل والشّرب، يأتي وقت الغداء، وقت العشاء ما يهمّه الواحد لأنّ قلبه منشغل فهو في غفلة عن الطّعام والشّراب الحسّيّ، فيكون المراد بالطّعام والسّقي هنا ما يفرغه الله عزّ وجلّ على قلب النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام من الأنس بذكره والانشغال به عمّا عداه، وهذه خاصيّة لا توجد لأحد سوى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبهذا يظهر الفرق بينه وبين أمّته فإنّ أمّته لا تطيق أن تنشغل بذكر الله عزّ وجلّ عن الأكل والشّرب، قالوا وعلى هذا قول الشّاعر:
" لها أحاديث من ذكراك تشغلها *** عن الشّراب وتلهيها عن الزّاد "
المرأة، امرأة له لها حديث من ذكراك تشغلها عن الشّراب وتلهيها عن الزّاد، نعم، هذا واضح يعني انشغال ذهني بذكر من؟
بذكر محبوبها، مع أنّه ليس تعلّق هذه المرأة بمحبوبها كتعلّق محبّة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بالله عزّ وجلّ، بل تلك المحبّة أعني محبّة رسول الله لله عزّ وجلّ وانشغال قلبه به لا يدانيها أيّ محبّة وأيّ انشغال، وهذا الذي يميل إليه ابن القيّم -رحمه الله- وهو الحقّ.
قال: ( فلمّا أبوا أن ينتهوا ) : أبوا يعني امتنعوا أن ينتهوا لا عصيانا لأمر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام فهم أشدّ النّاس امتثالا لأمره وأقرب النّاس اتّباعا له رضي الله عنهم، ولكنّهم رضي الله عنهم ظنّوا أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم نهاهم إشفاقا عليهم وخوفا عليهم من التّعب، وأنّه ليس هذا من باب الأمور التّعبّدّيّة ولكن من باب الخوف عليهم فقالوا : نحن نطيق ذلك وسنفعل، ونظير هذا لو أنّني مثلا طلبت منك أن تدخل الباب قبلي وأبيت هل تكون عاصيا لي؟
الطالب : لا.
الشيخ : هاه؟
الطالب : لا.
الشيخ : لا، لأنك ما قصدت المعصية لكن قصدت الأدب معي هكذا الصّحابة ما قصدوا المعصية بلا شكّ ، لكن ظنّوا أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك إشفاقا عليهم ورحمة بهم لا لأجل أنّ هذا من باب العبادة فقالوا نواصل، نعم .
( فواصل بهم يوما ثمّ يوما ) كم؟ يومين؟
الطالب : نعم.
الشيخ : ( ثمّ رأوا الهلال ) وإذا رأوا الهلال ما يمكن الوصال، أيّ هلال رأوا؟
الطالب : شوّال.
الشيخ : شوّال، كيف شعبان يروح لوراء؟!
الطالب : ههههه.
الشيخ : شوّال، طيب.
( ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخّر الهلال لزدتكم ) : اللهمّ صلّ وسلّم عليه، لو تأخّر الهلال لزدتكم يوما ثالثا ورابعا، ليش؟
قال الرّاوي: ( كالمنكّل لهم حين أبوا أن ينتهوا ) : يعني معناه كالذي يدعوهم إلى التّرك، التّنكيل هنا معناه التّرك، يعني أنّه أراد أن يفعل ذلك أن يواصل لو تأخّر الهلال لأجل أن ينكلوا عن هذا الفعل فيعرفوا أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ما نهاهم إلاّ من أجل الرّحمة والإشفاق، ولا شكّ أنّ التّيسير في هذا الباب هو الذي يحبّه الله، ولهذا قال الله تعالى في آيات الصّيام: (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) ، فإذا كان اليسر يحبّه الله لنا في هذه العبادة فلا ريب أنّ اليسر في إيش؟
الطالب : في الإفطار.
الشيخ : في الإفطار، وإعطاء النّفس حظّها من الطّعام والشّراب والنّكاح.
الطالب : واصلوا ثلاث أو يومين ؟
الشيخ : نعم؟
الطالب : واصلوا ثلاث أو يومين ؟
الشيخ : ثلاثة، الوصال يومين ، يعني الزائدات عن اليوم الذي هم فيه.
طيب في هذا الحديث نهى النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أمّته عن الوصال فأوردوا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إشكالا في أنّه يواصل وهو ينهى عن الوصال، فبيّن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الفرق وأنّه عليه الصّلاة والسّلام يواصل لأنّ قلبه مشغول بذكر الله تعالى ومحبّته عن الحاجة إلى الأكل والشّرب، وأنّ هذا أمر لا يتسنّى لغيره فظهر الفرق.
ثمّ إنّهم رضي الله عنهم لم يتركوا الوصال ظنّا منهم أنّ النّبيّ صلّى عليه وسلّم أراد بذلك الإشفاق عليهم لا أنّ ذلك من التّعبّد فواصل بهم عليه الصّلاة والسّلام يوما ويوما ليتبيّن لهم الحكمة من النّهي عن الوصال، وقال: ( لو تأخّر الهلال لزدتكم ).