فوائد حديث ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع ...). حفظ
الشيخ : إذن نقول: هذا الحديث يستفاد منه أنّ الحجامة تفطّر .
على السّبب الظّاهر المعلوم وهي: الضعف بسبب الحجامة .
البدن يضعف فيحتاج إلى الفطر فيفطر بماذا؟
الطالب : بالأكل والشرب.
الشيخ : بالأكل والشّرب فخرج عن ظاهر الحديث، لأنّ ظاهر الحديث الإفطار بالحجامة وهؤلاء يقولون: لا، كادا يفطران، ليس أفطرا بل كادا يفطران.
أمّا الحاجم فقالوا: نعم يكاد يفطر لأنّه لو شفط بقوّة دخل الدّم إلى جوفه فأفطر، لكن لو شفط شيئا فشيئا لم يفطر فالمعنى: كاد يفطر الحاجم لأنّه ربّما شفط بقوّة فأفطر، إذن على قول هؤلاء يكون: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) : كادا يفطران ولم يفطرا ولاّ لا؟
لأنّ المحجوم لو تصبّر مع الضّعف حتى غربت الشّمس وأكل وشرب صحّ صومه.
والحاجم لو تأنّى رويدا رويدا صحّ صومه.
طيب وقلت: وإحالة في الحكم على السّبب الظّاهر، ما هو السّبب الظّاهر في الحديث الذي أفطر به الحاجم والمحجوم؟
الطالب : الحجامة.
الشيخ : الحجامة، هم يقولون: لا، إنّ الرّجلين كانا يغتابان النّاس، كل واحد منهم يجيب واحد ويفتحه وينهش من هاللّحم، نعم، كانا يغتابان الناس فقال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) ، وهذا التّأويل هو في الحقيقة تحريف:
أوّلاً: لأنّهم هم يقولون: إنّ الغيبة لا تفطّر، وهذا من الغرائب، يقولون: إنّ الغيبة لا تفطّر ولما قال الرّسول: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) قال كانا يغتابان النّاس، وأنتم تقولون الغيية ما تفطّر، يعني: لو اغتابوا النّاس بدون حجامة ما أفطروا، وإن اغتابوا النّاس وحجموا أفطروا! إيش هذا ما يصلح، ما يستقيم. الشّيء الثاني: أنّه من الجناية على النّصّ أن نلغي الوصف الذي عُلّق عليه الحكم ثمّ نذهب نلتمس وصفا آخر، وصفا آخر نعلق به الحكم، فإنّ هذا جناية على النّصوص، ولاّ لا؟
الطالب : بلى .
الشيخ : هذه بلا شكّ جناية على النّصوص، وما مثل هؤلاء إلاّ مثل من قالوا في المرأة المخزوميّة التي كانت تستعير المتاع وتجحده، ( فأمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقطع يدها ) فقالوا: إنّ هذه المرأة ما أمر الرّسول بقطع يدها لأنّها استعارت فجحدت ولكن لأنّها كانت تسرق.
وما مثل هؤلاء أيضا إلاّ كمثل قول من قال: إنّ قول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ( بين الرّجل وبين الشّرك والكفر ترك الصّلاة ) أو ( العهد الذي بيننا وبينهم الصّلاة فمن تركها فقد كفر ) قالوا: إنّ المراد من جحدها، إذا كان المراد الذي جحدها فالذي يجحد ولو صلّى كلّ وقت في وقته ومع الجماعة فهو كافر، فكيف نلغي الوصف الذي علّق عليه الحكم ثمّ نجلب له وصفا آخر لم يذكره الشّرع؟!!!
فالمهمّ أنّ مثل هذه الأمور من أهل العلم عفا الله عنّا وعنهم يحمل عليها أنّهم يعتقدون قبل أن يستدلّوا، فيكون عند الإنسان حكم معيّن تقليدا لمذهب من المذاهب أو اختيارا من عند نفسه ثمّ تأتي النّصوص بخلاف ذلك المذهب أو ذلك الفهم، فيحاول أن يصرف النّصوص إليها ولو بضرب من التّعسّف، والحقيقة أنّ هذه ليست طريقاً سليماً، إذ أنّ الإذعان والتّسليم المطلق هو الذي يجعل النّصوص متبوعة له لا تابعة، بمعنى أنّه إذا دلّت النّصوص على شيء يأخذ به، وهو سيحاسب على ما دلّت عليه النّصوص، والحكم بين النّاس إلى من؟
الطالب : إلى الله.
الشيخ : إلى الله ورسوله، فإذا دلّ كلام الله ورسوله على شيء من الأشياء فالواجب علينا أن نأخذ به مهما كان، والخطر علينا إذا خالفنا هذا الظّاهر ليس إذا أخذنا به، الخطر علينا إذا خالفنا هذا الظّاهر.
إذن فهذا الحديث يدلّ على أنّ الحاجم والمحجوم يفطران، يبقى النّظر ما الجواب عن حديث ابن عبّاس السّابق؟
الجواب عليه: أنّ الإمام أحمد رحمه الله ضعّف رواية: ( احتجم وهو صائم ) ، وقال : إنّ ذلك لا يصحّ ، وأنّه انفرد به أحد الرّواة عن ابن عبّاس، وأنّ غيره خالفه فيها، وإذا كان الأمر كذلك فإن مخالفة الثّقات في نقل الحديث تجعله شاذّا، وإن كان المخالف ثقة.
والحديث الذي معنا حديث شدّاد بن أوس قال البخاري: " إنّه أصحّ شيء في الباب " ، والغريب أنّ هذا الحديث جعله بعض العلماء من المتواتر ، لأنّه رواه عدد كبير عن الرّسول عليه الصّلاة والسّلام في إفطار الحاجم والمحجوم، حتى قالوا: إنّه من المتواتر.
فالإمام أحمد رحمه الله ذهب إلى أنّ الحديث وهم ( احتجم وهو صائم ) .وبعضهم قال: إنّ الحديث منسوخ بحديث شدّاد ، لأنّ حديث شدّاد بن أوس كان في السّنة الثامنة، وحديث ابن عبّاس كان في عمرة الحديبية أو عمرة القضاء فهو سابقٌ.
وعلى قاعدة بعض العلماء يقولون: حديث ابن عبّاس من فعل الرّسول، وحديث شدّاد من قوله، وفعله لا يعارض قوله، والحكم للقول لا للفعل، وهذه طريقة الشّوكاني -رحمه الله- وجماعة من أهل العلم، ولكن هي ليست بطريقة مرضيّة عندنا كما سبق إذا أمكن الجمع.
طيب لكن يبقى عندنا حديث آخر بعد هو الذي قد يعارض الحديث الذي نحن الآن بصدده، وهو:
" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخّص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم ، وكان أنس يحتجم وهو صائم ). رواه الدارقطني وقواه " :
أظنّ انتهى الوقت؟ حديث ابن عبّاس كان متقدّماً، نعم؟
الطالب : هذا على أي قول؟
الشيخ : هذا كلّه على القول بأنّ الحجامة تفطّر، وذكرنا لكم أنّ هذا هو قول فقهاء الحديث: كأحمد بن حنبل وابن المنذر وابن خزيمة وكذلك هو قول الظّاهريّة، وأنّه أرجح من القول بأنّه لا يفطّر، وذكرنا أيضا أنّ هذا هو مقتضى النّظر والقياس، أليس كذلك؟
الطالب : بلى.
الشيخ : قلنا: القياس يقاس على حديث القيء حديث أبي هريرة : ( من استقاء عمدا فليقض ) : والعلّة الجامعة بينهما أنّ كلّ واحد منهما سبب للضّعف.
أمّا مقتضى النّظر فلأنّ الشّارع جعل الصّائم يكون معتدلاً بالنّسبة لشهواته فلا ينال منها ما يشتهيه، ولا يُحرم منها ما يضرّه فقده، فيكون متوازنا، فالأكل والشّرب يغذّي البدن والحجامة بالعكس والاستقاء كذلك بالعكس، فجعل الشّارع الأمر معتدلا.
ثمّ نقول بناء على ذلك: إن كنت محتاجا إلى الحجامة ولا بدّ فاحتجم وكل واشرب ولو في رمضان واقض يوما مكانه، وإن كنت غير محتاج إلى الحجامة فأبق على نفسك قوّتها وانتظر حتّى تغرب الشّمس، فيه الحديث الذي يأتينا الآن.