ما حكم طاعة ولي الأمر إذا أمر بترك أمر ندب إليه الشرع كالدعوة وجاء في الجديث:"إنما الطاعة في المعروف".؟ حفظ
السائل : أحسن الله إليك، إذا ندب الله عزّ وجلّ إلى أمور من الشّريعة ندباً عامّاً ومنع من إيقاعها وليّ الأمر .
الشيخ : مِن؟
السائل : منع من إيقاعها وليّ الأمر.
الشيخ : نعم.
السائل : فهل يستجاب لولي الأمر في هذا مع قول الرسول عليه الصّلاة والسّلام: ( إنّما الطّاعة في المعروف ) مع الضّابط إذا تيسّر، جزاكم الله خيراً؟
الشيخ : لا بدّ أن تحدّد هذه المسألة، يعني قل: لو قال كذا.
السائل : أخشى أنّه ما يحسب عليّ لأنّ المسألة أحسّ أنّها تحتاج إلى بسط.
الشيخ : لا، قل مثل كذا، مثل لو قال: لا تصلّوا راتبة الظّهر.
السائل : مثلاً الدّعوة إلى الله عزّ وجلّ، الأصل فيها الإذن من عند الله عزّ وجلّ.
الشيخ : نعم.
السائل : إذا منع وليّ الأمر شخصًا من النّاس من الدّعوة إلى الله عزّ وجلّ، فهل هذا من المعروف الذي قال عنه النّبيّ صلّة الله عليه وسلّم: ( إنّما الطّاعة في المعروف )، فهل التزام أمر وليّ الأمر ملزم في هذا؟
الشيخ : طيّب، نقول: إذا قال وليّ الأمر لشخص مثلا لا تتكلّم، نظرنا: فإن كان لا يقوم أحد سواه بهذه المهمّة فإنّه لا يطاع ولي الأمر لأنّها تكون فرض عين على هذا الشخص، ولا طاعة لوليّ الأمر في فرض عين.
أمّا إذا كان يقوم غيره مقامه، نظرنا إذا كان وليّ الأمر يكره الموعظة وتوجيه النّاس، فهذا يجب أن يناصح ولي الأمر في هذا، ويقال: اتّق الله، لا تمنع عباد الله من إرشاد إخوانهم.
أما إذا كان لسبب آخر يحدث من وراء كلام هذا الرجل، ورأى أنّ المصلحة إيقافه، وغيره قائم بما يجب القيام به، فإنّه لا يحلّ لهذا أن ينابذ وليّ الأمر، وقد كان عمّار بن ياسر رضي الله عنه مع عمر بن الخطّاب في سفر فأجنب عمارٌ -أصابته جنابة- فجعل يتمرّغ في الصّعيد كما تتمرّغ الدابة، يعني: يتقلّب ليشمل التّرابُ جميعَ بدنه، ثمّ عاد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له، فقال لِـعمّار: ( إنّما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ) وأراه التّيمّم.
ثمّ توفّي الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، وجاءت خلافة أبي بكر، ثمّ جاءت خلافة عمر، وصار عمّار يحدّث بذلك، فاستدعاه يومًا من الأيّام، وقال كيف تحدّث بهذا الحديث؟
لأنّ عمر يرى أنّ الجُنب لا يتيمّم، وأنّ التّيمّم في الحدث الأصغر فقط، ومن عليه جنابة ينتظر حتّى يجد الماء ثم يغتسل ويصلّي هذا رأيه، فقال له عمّار: ( يا أمير المؤمنين! أما تذكر لما بعثنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنت في حاجة وحصل كذا وكذا؟ ) ، فكأنّ عمر نسي هذا، فقال له: " يا أمير المؤمنين! إن شئت بما جعل الله لك عليَّ من الطّاعة ألاّ أحدّث به فعلتُ، فقال له عمر: لا، نولّيك ما تولّيت " ، يعني : فحدّث به.
والشّاهد أنّه ما أنكر عليه قوله: " إن شئت بما جعل الله لك عليّ من الطّاعة ألاّ أحدّث به فعلت ".
أمّا لو قال وليّ الأمر مثلاً: لا تصلّ النّافلة، فنقول: صلّها، لكن بدون منابذة، صلّها في بيتك، لأنّ منابذة وليّ الأمر يترتّب عليها مفاسد كثيرة، لا بالنّسبة لك أنت أيّها المنابذ، لأنك أنت أيّها المنابذ ربّما تؤخذ وتؤذى، وأنت تعتقد أنّك أوذيت في الله، لكن حتّى غيرك يصاب بهذه المنابذة، كيف يصاب؟
ربما يقتدي بك غيرك ممن لا يعرف ما عرفت، فينابذ بدون علم، وربما تُتحسّس الأخبار من حولك، ويؤتى بكلّ إنسان حولك ويؤذى بدون جريمة، ثمّ إنَّ حطّ قدر ولاة الأمور من العلماء أو الأمراء في أعين الناس ضَرره كبير، لأنّ قدر ولاة الأمور إذا سقط من أعين النّاس تمرّد الناس على ولي الأمر ولم يروا لأمره قيمة، وصاروا يرونه كسائر النّاس، وإذا انحطّ قدر العلماء في أعين النّاس لم يكن لما يقولونه من شريعة الله قيمة، ولم يثق الناس بأقوالهم، ونُبِذت الشّريعة من هذا الجسر، لأن قدرهم هُوِّن في أعين الناس، فصار الناس لا يبالون بهم، ولا يأخذون بأقوالهم، ويذهبون يأخذون من فلان وفلان ممّن هو دونهم في فقه شريعة الله عزّ وجلّ.
فهذه الأمور لا ينبغي لنا أن ننظر إلى ظاهرها وسطحها، لأنّ لها غورًا بعيدًا عميقًا، ومن ثَمَّ قال النبي عليه الصّلاة والسّلام عن ولاة الأمور الذين يطالبون بحقهم ويضيعون حق الله في رعيتهم، فقال النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: ( أعطوهم ما لهم واسألوا الله حقّكم )، حتى يعني: لو منعوا حقّنا فنحن نعطيهم ما لهم علينا، ونسأل الله سبحانه وتعالى حقنا، أن يهديهم الله حتى يقوموا به، فينبغي لنا أيها الإخوة ألاّ ننظر إلى الأمور مِن سطحيتّها فقط، بل ننظر لما يترتب عليها من المفاسد العظيمة، والأمن ليس له قيمة، يعني: الدّنيا كلّها تبذل في سبيل الأمن، ويحطّ الإنسان من نفسه أشياء كثيرة من أجل الأمن، ولا يعرف قدر الأمن إلاّ من ابتلي بالخوف، واسألوا آباءكم الأوّلين ماذا كانت عليه هذه البلاد من الخوف فيما سبق؟
كان النّاس لا يذهبون من بريدة إلى عنيزة أو من عنيزة إلى بريدة إلا مسلّحين، وعلى خوف شديد، بل قال لي بعض كبارنا: كنّا والله نخرج في رمضان شهر مقدّس، نخرج في رمضان من بيوتنا بعد العَشاء، بل بعد المغرب وعلى جنوبنا السّلاح، يخرجون للتّراويح في أوّل اللّيل وهم متسلّحون يخافون على أنفسهم من عدو يدخل البلد أو غير ذلك، فنعمةُ الأمن لا يساويها نعمة، وإذا انفلت الأمن من يردّه؟!
فهذه المسألة يجب علينا أن نتجنّب كلّ ما يثير النّاس، ونحن لا نبرّئ ولاة الأمور مِن الخطأ، ولاة الأمور من العلماء والأمراء عندهم خطأ كثير، لكن جاء في الأثر: " كما تكونوا يولّى عليكم "، انظروا إلى أحوال الناس، تكون ولاتهم مثلهم، من حكمة الله أنّ الوليّ والمولّى عليه يكونون متساويين، كما قال تعالى: (( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) : كذلك يولّي الله على الصّالحين صلحاء.
وإذا نظرنا إلى أحوال الرّعيّة وجدنا أنفسنا نحن أوّل الرّعيّة عندنا تفريط كثير في الواجبات وإخلال وتهاون، نجد الغشّ في المعاملات، والكذب في المعاملات، والتّزوير، وشهادة الزّور، وأشياء كثيرة، يعني: لو أنّ الإنسان تعمّق وسلّط الأضواء على حال المجتمع الإسلاميّ اليوم لقال: ليس هؤلاء بمسلمين، فالمجتمع الإسلامي صدق ووفاء وأمانة، لكن هذه مفقودة الآن، فإذا أضعنا نحن الأمانة ونحن ليس عندنا ولاية كبيرة، فكيف بوليّ الأمر الكبير؟!
قد يكون أشد مِنّا إضاعة للأمانة، لكن استقيموا يولي الله عليكم من يستقيم.
ثمّ إنّ الأولى أيضا، بل إن لم أقل الواجب: أن ندعو لولاة الأمور سرّا وعلنا، أن ندعو الله لهم بالتّوفيق والصّلاح والإصلاح، لأنّهم ولاة أمورنا، أعطيناهم البيعة، فلا بدّ أن نسأل الله لهم الصّلاح حتى يصلح الله بهم، ويُذكر أنّ الإمام أحمد -رحمه الله- قال: " لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسّلطان "، لأنه إذا صلح صلحت الأمّة.
وهذا صحيح، فالواجب علينا يا إخواني ألاّ نيأس، وأن ندعو لولاة أمورنا أن يصلح الله لهم الأمور، وأن يعينهم على ما حمّلهم، وأن يذهب عنهم كلّ بطانة سوء، لأنّ ولاة الأمر لا تظنّون أنّه وحده، فله أعوان، وله وزراء، وله جلساء، إن وفّق لجليس صالح وعون صالح، ووزير صالح، فهو من توفيقه وتوفيق الرعية، وإن كان الأمر الآخر فهو من شؤمه وشؤم الرعية، ولهذا يجب أن ندعو الله لولاتنا أن يوفّقهم للصّلاح والإصلاح، وأن ييسّر لهم البطانة الصّالحة، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.
السائل : آمين.