تتمة لباب : " حسن الخلق إذا فقهوا " شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( تدرون ما أكثر ما يدخل النار قالوا الله ورسوله أعلم قال الأجوفان الفرج والفم وما أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق ) .
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
وصل بنا الدرس الماضي إلى الحديث التاسع والثمانون بعد المئتين من الباب 138 ألا وهو .
باب: " حسن الخلق إذا فقهوا ".
هذا الحديث الذي نبتدئ درسنا لهذا اليوم إسناده حسن يرويه المصنّف عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تدرون ما أكثر ما يدخل النار؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ، قال: الأجوفان: الفرج والفم، وما أكثر ما يدخل الجنة؟ تقوى الله وحسن الخلق ).
هذا الحديث يبين الرسول صلوات الله وصلم عليه جامع الخير والشر ، فيقول عليه الصلاة والسلام سائلاً أصحابه لأن طريقة السؤال والجواب عليه يمكّن الجواب من قلوب السامعين، يقول لأصحابه: ( تدرون أكثر ما يدخل النار؟ ) فأجابوه بقولهم قالوا: الله ورسوله أعلم ، فأجابهم عليه الصلاة والسلام بقوله : ( الأجوفان: الفرج والفم ) يعني أن النبي عليه الصلاة والسلام يصرّح أن أكثر الأسباب التي بها يدخل الناس النار موردهما: الفرج والفم، أما الفرج فهو كناية عن الزنا، وذلك لا يقتضي شرحا وبياناً، وأما الفم فالمقصود به أمور من المعاصي كثيرة منها الغيبة ومنها النميمة ومنها الشتائم والسباب ومنها الكلام الذي لا يجوز أن يتكلم به الإنسان بالنسبة لربه تبارك وتعالى ، كالحلف بغير الله عز وجل.
وهذا الطرف من المذكورَين هو الأهم مما يجب على المسلم أن يقف عنده وأن يتدبّره ، أما الطرف الأول فهو الفرج وناحيته محصورة وهي مضمونة عند أكثر المسلمين.
أما الناحية الأخرى ألا وهي الفم فذلك قل ما ينجو منه إنسان لكثرة ما يجول به فم الإنسان من المعاصي كما ذكرنا آنفاً، ولذلك جاء في بعض الأحاديث الصحيحة قوله عليه الصلاة والسلام: ( من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه أضمن له الجنّة ) اللحيين يعني الفكّين ، وهذا كناية على أن يحفظ الإنسان فمه ولسانه النزول فيما لا يرضي الله تبارك وتعالى من تلك المعاصي، فهو عليه السلام يقول: ( من يضمن ما بين لحييه -فكيه- وما بين فخذيه أضمن له الجنّة ) والواقع يشهد أن أكثر ما يُبتلى به الإنسان المسلم إنما هو لسانه ولذلك قيل قديماً:
" احفظ لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان ".
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه ذكر في هذا الحديث جوامع الشر فحض المسلمين على أن ينتهوا عن ذلك ألا وهما المحافظة على الفرج والمحافظة على ما يبدو من الإنسان من الفم.
ثم ذكر جوامع الخير بقوله وسؤاله إياهم : ( وما أكثر ما يدخل الجنّة ؟ ) طبعاً كان جوابهم أيَصا قولهم السابق : " الله ورسوله أعلم " فأجابهم عليه الصلاة والسلام بقوله : ( تقوى الله وحسن الخلق ) فالشاهد من هذا الحديث في هذا الباب هو الجملة الأخيرة منه ألا وهو قوله عليه السلام : ( حسن الخلق ) ففي الطرف الأخير من الحديث يذكر نبينا صلوات الله وسلامه عليه أن أكثر وأقوى أسباب دخول الجنة هو أمران اثنان الأمر الأول هو تقوى الله.
1 - تتمة لباب : " حسن الخلق إذا فقهوا " شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( تدرون ما أكثر ما يدخل النار قالوا الله ورسوله أعلم قال الأجوفان الفرج والفم وما أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق ) . أستمع حفظ
فائدة : التقوى تنقسم إلى قسمين اثنين.
تقوى الله تفسّر تارة وهذا أقل ما يفسّر به : هو اجتناب نواهيه والإتيان بما أمر الله عز وجل به .
ويفسّر أحياناً وهي تقوى الكمّل من الرجال بأنها الإتيان بكل ما يرضي الله تبارك وتعالى سواء كان أمراً واجباً أو كان أمراً مستحباً ، والانتهاء عما نهى عنه سواء كان نهياً محرماً أو نهياً مكروها .
وهذا المعنى الثاني هو الذي يشير إليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه بقوله : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) أن يترك الإنسان ما ليس فيه شبهة مخافة أن يقع في شبهة هذا تقوى في أعلى مراتب التقوى ، لكن هذا ليس أمراً واجباً إنما هو من فضائل الأعمال ، ولهذا أيضًا أشار الرسول صلوات الله وسلامه عليه في حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( (إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) فإذن الأمور ثلاثة: أمر حرام يجب اجتنابه، وأمر حلال يجوز ارتكابه، وأمر لا يُدرى أهو من الحلال أم من الحرام فالاحتياط والتقوى الكاملة أن يبتعد الإنسان عن مواقعة هذه الشبهات.
مثاله مما يتعلق في حياتنا اليوم: هذه المعلّبات التي يكثر السؤال عنها في كل مكان في هذا الزمان حيثما ذهبنا ما حكم هذه اللحوم المعلّبة التي تأتي من أوربا مثلاً؟ فنحن نجيب من الناحية الفقهية أن هذه اللحوم إن عُرف أنها ذبحت ذبحاً شرعياً بمعنى أنها لم تُقتل قتلاً وإنما ذبحت ذبحاً وكان الذابح من أهل الكتاب فهي حلال، وإن كانت هذه اللحوم لم تُذبح ذبحاً شرعياً وإنما قُتلت قتلاُ على الطريقة المتبعة اليوم في كثير من بلدان الغرب، أو ذُبحت ذبحاً شرعيا ولكن الذّابح لم يكن مسلماً ولا من كان من أهل الكتاب فحينذاك هذا اللحم لا يجوز أكله، فإن عرفنا أنه من النوع الأول جاز أكله ، وإن عرفنا أنه من النوع الثاني حرُم أكله ، وإن كنا لا نعلم أنه كثير من الأحيان نقع في حيرة يا ترى هذه اللحوم المعلّبة ذبحت ذبحاً شرعيا ولا لا، ما ندري فالتقوى حين ذاك الابتعاد عن هذه اللحوم ، التقوى التي هي من أعلى درجات التقوى ، لكن لو أكلها الإنسان وهو لا يعلم أنها ذبحت غير ذبح شرعي فليس عليه بأس، لكن الأفضل كما قال عليه السلام فيما ذكرنا آنفاً : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ).
والمقصود أن التقوى مرتبتان :
مرتبة لا بد منها لكل مسلم وهي كما ذكرنا آنفاً : الإتيان بما أمر الله والايبتعاد عما حرّم الله ، هذه تقوى لا يد أن يتّقيها كل مسلم.
هناك تقوى في مرتبة أخرى وهي الابتعاد عن كل ما فيه شبهة، فالابتعاد عن كل ما فيه شبهة مرتبة فاضلة، ولكن لا تجب على كل الناس لأن هذا من باب الحيطة والحذر كما ذكرنا آنفا من قوله عليه السلام : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) ، فكلمة تقوى الله إذن مع أعظمية حسن الخلق هي في الواقع قد جمعا الخير كله ، لأن المسلم إذا اتقى الله أو أتى بما فرض الله وابتعد عما حرّم الله فليس عليه مسؤولية ومؤاخذة أمام الله تبارك وتعالى ، على نحو ما جاء في حديث ذلك الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عما فرض الله عليه فأخبره بالخمس صلوات في كل يوم وليلة فقال له: يا رسول الله هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطّوع، ثم سأله بما فرض الله عليه من صيام فأخبره بأن عليه من صيام شهر رمضان في كل سنة قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطّوع ، وهكذا كلما ذكر الرسول عليه السلام له ما فرض الله عليه سأله هل علي غير ذلك قال لا إلا أن أحببت أن تطّوع يعني أن تزداد من عمل الخير مما لم يفرضه الله عليك، فبعد أن انتهى الرسول عليه السلام من بيان ما فرض الله عليه انصرف ذلك الأعرابي وهو يقول: " والله يا رسول الله لا أزيد عليهن ولا أنقص " ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( أفلح الرجل إن صدق دخل الجنّة إن صدق ) هذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن المسلم إذا أتى بما فرض الله واجتنب ما نهى الله فهو في الجنة لا شك ولا ريب في ذلك، ولكن ما بين أن يكون في الدرجة الدنيا من الجنة وبين أن يكون في الدرجات العاليات هذا لا يمكن بمجرد الاقتصار على فرائض الأعمال والابتعاد عن المحرّمات من الأعمال إنما تكون الدرجات في التسابق في الخيرات ، فهذا النوع من التقوى هو الواجب على كل مسلم كما جاء أيضًا في الحديث الآخر: ( قال رجل : يا رسول الله أرأيت إن أنا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وحلّلت الحلال وحرّمت الحرام أأدخل الجنّة ؟ قال : نعم إن أنت صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وحرّمت الحرام وحلّلت الحلال دخلت الجنّة ) هذه التقوى هي أدنى مراتب التّقوى وهي التي لا بد على كل مسلم من أن يتحقق بها، لكن التقوى أن تقوم الليل والناس نيام، أن تتصدق بالمال الذي ما فرضه الله عليك لأنه ليس من الزكاة المفروضة ونحو ذلك من مكارم الأخلاق هذا باب لا يتنهي وبه يتبيّن المسلم البار من المسلم الذي يريد فقط النجاة من النار والدخول للجنّة، فهذه هي التقوى بقسميها تقوى لا بد منها ، وتقوى تستحب ويتفاضل فيها الناس على مراتب كثيرة .
أما حسن الخلق فهو بالإضافة إلى ما سبق من التقوى قال عليه السلام : أن من أكثر أسباب خول الجنة بعد التقوى حسن الخلق، وقد عرفنا في الدرس الماضي قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار ) .
الكلام على إسناد حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : ( قام أبو الدرداء ليلة يصلى فجعل يبكى ويقول اللهم أحسنت خلقى فحسن خلقى حتى أصبح ... )
3 - الكلام على إسناد حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : ( قام أبو الدرداء ليلة يصلى فجعل يبكى ويقول اللهم أحسنت خلقى فحسن خلقى حتى أصبح ... ) أستمع حفظ
شرح حديث أسمامة بن شريك رضي الله عنه : ( ... فقالوا يا رسول الله أعلينا حرج في كذا وكذا في أشياء من أمور الناس لا بأس بها فقال يا عباد الله وضع الله الحرج ... ).
عن أسامة بن شريك قال : ( كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، ناس كثير من هاهنا وهاهنا، فسكت الناس لا يتكلمون غيرهم، فقالوا: يا رسول الله، أعلينا حرج في كذا وكذا ؟ في أشياء من أمور الناس لا بأس بها، فقال: يا عباد الله، وضع الله الحرج، إلا امرءا اقترض امرءا ظلما فذاك الذي حرج وهلك، قالوا: يا رسول الله، أنتداوى ؟ قال: نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد ، قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال: الهرم قالوا: يا رسول الله، ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال: خلق حسن ) .
في هذا الحديث أيضًا فوائد عديدة جمعها الرسول صلوات الله وسلامه عليه وهو ينصح الأعراب، ونحن نعلم جميعاً أن الأعراب فيهم سلامة ولكن فيهم أيضًا جهل وغفلة عن كثير من الأمور الشرعية، ومن عادتهم أنهم يصيحون في كلامهم ويتصارحون ، فيقول أسامة بن شريك وهو من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت الأعراب، ناس كثير من هاهنا وهاهنا: أي أن الأعراب كانوا جمعا كثيرا يأتون إلى الرسول عليه السلام يأتون من كل جانب ، فلما جاؤوا سكت الناس الذين كانوا عند النبي فلا يتكلم غير الأعراب وأخذوا يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام أسئلة شتّى فيقولون: يا رسول الله أعلينا حرج في كذا وكذا في أشياء من أمور الناس يعني كانت أسئلتهم تتعلق ببعض الوقائع التي تقع للناس ، ومثل هذا الحديث يذكّرني بمثل ما جاء في * صحيح البخاري * : ... صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عند رمي الجمرات يوم النحر جاءه ناس يسألونه أسئلة شتّى تشبه أسئلة أولئك الأعراب فمن قائل يقول : ( يا رسول الله إني طفت حول الكعبة قبل أن أرمي فقال : لا حرج ، وأخر يقول : يا رسول الله إني ذبحت قبل أن أرمي، فيقول الرسول عليه السلام: لا حرج ) وهكذا كان جواب الرسول عليه السلام في تقديم المناسك وتأخيرها وعدم تنظيمها وترتيبها حسب ما جاء في السنّة كان يقول لهم عليه السلام: ( لا حرج لا حرج ) أي لا باس في أن يقدّم الحاج بعض المناسك على بعض وإن كان الأفضل له أن يأتي بها حسب ما جاء بها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
والظاهر أن جواب الرسول عليه السلام هذا في جوابه للأعراب ( يا عباد الله وضع الحرج ) كأنه يلمح في مثل هذا الجواب أن يقول للأعراب : سلوا عما هو أهم من هذه الأمور التي تقع من الإنسان دون قصد لمخالفة الشرع هلا سألتم عما حرّم الله عليكم ؟ فيقول عليه السلام : ( يا عباد الله وضع الله الحرج ) الحرج هو كل شيء إذا فعله الإنسان أصيب بالضيق والضيق مرفوعٌ بنص القرآن الكريم حين قال عز وجل : (( وما جعل عليكم في الدين من حرج )) ولكن أن يجلس المسلم ينال من عرض أخيه المسلم سواء كان ذكراً أو أنثى وباستطاعته أن يتبعد عن هذه المعصية فهذا الذي فيه حرج وفيه هلاك ، لذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام للأعراب : ( يا عباد الله وضع الله الحرج إلا ) يستثني الرسول عليه الصلاة والسلام فالحرج غير مرفوع بالنسبة لامرئ اقترض امرءًا ظلماً ، اقترض : بمعنى اقتطع القرض هو القطع ، اقتطع امرأ ظلماً كيف يقال هذا ؟ إلا مرأ اقترض امرأ ظلماً يعني قرض أي قطع أي من لحمه وهذا كناية عن استغابته ، فقوله عليه الصلاة والسلام : ( وضع الله الحرج إلا امرأ اقترض امرأ ظلماً فذاك الذي حرج وهلك ) كأن الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله : ( اقترض ) يشير إلى قول الله عز وجل : (( يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظّن إن بعض الظّن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه )) (( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا )) يعني الذ يريد أن يأكل لحم أخيه يقتطع منه فكما ربنا عز وجل في الآية أمر خطير جداً ألا وهو أن المسلم إذا اغتاب أخاه المسلم فمثله كمثل ما لو اقتطع من لحمه وهو ميّت فمضغه وأكله، هذا القطع الذي ذكره ربّنا عز وجل في الآية هو الذي أشار إليه الرسول عليه السلام في هذا الحديث الصحيح: ( إلا امرأ اقترض امرأ ظلماً ) اقترض أي اقتطع، كيف اقتطع ؟ يعني استغابه فالغيبة ، غيبة المسلم لأخيه المسلم سواء كان المغتاب ذكراً والمستغيب ذكرا أو أنثى كما ذكرنا مرارا وتكرارا: ( النساء شقائق الرجال ) فما حرم على الرجال حرم على النساء وما حرم على الرجال حرم على النساء فقوله عليه السلام هنا : ( إلا امرأ ) إلا شخصاً سواء كان ذكرا أو أنثى اقترض امرأ سلماً أي قطع قطعة من لحم أخيه المسلم، فهذا المسلم الذي يقترض امرأ ظلماً يقول عليه الصلاة والسلام : ( فذاك الذي حرُج وهلك ).
4 - شرح حديث أسمامة بن شريك رضي الله عنه : ( ... فقالوا يا رسول الله أعلينا حرج في كذا وكذا في أشياء من أمور الناس لا بأس بها فقال يا عباد الله وضع الله الحرج ... ). أستمع حفظ
تتمة شرح حديث أسمامة بن شريك رضي الله عنه : ( ... إلا أمرءا افترض أمرءا ظلما فذاك الذي حرج وهلك ... )
" القدح -أي الطعن- ليس بغيبة في ستّة *** متظلّم ومعرّف ومحذّرِ
ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومن *** طلب الإعانة في إزالة منكرٍ "
الغيبة في الأصل كما جاء في الحديث الصحيح: ( ذكرك أخاك بما يكره ) كلما تكلم إنسان على أخيه المسلم بشيء يكرهه وهو غائب عنه فهو غيبة، إذا قلت فلان مثلاً يمشي بهذه الصورة وأخذت أنت مثلاً تقلّد مشيته هذه غيبة، ولذلك جاء في الحديث أن السيدة عائشة لما مرّت امرأة قصيرة مرّت بها امرأة قصيرة وهي جالسة مع النبي صلى الله عليه وسلم فأشارت بيدها هكذا ، تشير يعني بأنها قصيرة ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لأفسدته ) هي شو سوت ؟ فقط أشارت إلى أن الله خلقها قصيرة ، وهنا الآن مجال الغيبة للناس واسع جدّاً فالناس كما خلق ربنا عز وجل في صورهم وفي تقويمهم فمنهم الطويل ومنهم القصير ، ومنهم النّحيل ومنهم البدين ، فقد يمر مار غليظ مثلاً هكذا فيستغيبه أحدنا فيقول ... أو ما أشبه ذلك ، على كل داخل في عموم هذا الحديث ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام : ( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، قالوا: يا رسول الله أرأيت إن كان ما قلت هو فيه ، فقال: إن كنت قلت ما فيه فقد اغتبته وإن قلت ما ليس فيه فقد بهتّته ) يعني الغيبة هو أن تصف الإنسان بما فيه أما إذا وصفته بما ليس فيه فقد افتريت عليه فهذا بهت وهذا جرمه وذنبه أعظم عند الله تبارك وتعالى من الغيبة إذا كانت الغيبة سمعتم وصفها في القرآن الكريم: (( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه )) لو حي يكره الإنسان يأكله لحم أخيه فكيف وهو ميت ؟ فلذلك فاستغابة المسلم لأخيه المسلم حرام وكثيراً ما يقع فيه جماهير الناس وخاصة النساء اللاتي لا يجدن في مجالسهن إلا أن يتكلمن وأن يقطعن وقتهن للتحدث عن فلانة وفلان، فاتقوا الله عز وجل وابتعدن عن مثل هذه الغيبة، ولكن ليس قصدي الآن هو الإفاضة في بيان الغيبة المحرّمة، فبعد أن أوضح الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن ذكرك أخاك بما يكره هو الغيبة خلص كل إنسان يستطيع أن يعرف أنه يغتاب أخاه المسلم أو لا، لكن الذي نحن بحاجة لبيانه هو أن الغيبة أحياناً تجوز بل تجب، الغيبة المحرّمة والتي عرفتم وصفها في القرآن وفي هذا الحديث الذي بين أيجينا الآن أن الغيبة المحرمة تجوز بل تجب تصبح فرضاً بينما أصله أنها حرام ، كيف ذلك ؟ جمعها العلماء في البيتين السابقين.
5 - تتمة شرح حديث أسمامة بن شريك رضي الله عنه : ( ... إلا أمرءا افترض أمرءا ظلما فذاك الذي حرج وهلك ... ) أستمع حفظ
فائدة : أنواع الغيبة المشروعة المحل الأول : " متظلّم " .
أولها: متظلّم متظلّم بمعنى مظلوم يشكو ظلمه إلى الناس لكي يُنصفوه ويخلّصوه من ظالمه ، فيجوز له هذا المتظلّم أن يقول: فلان ظلمني فقوله فلان ظلمني إذا طبّقنا عليه الحديث السابق: ( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ) لا شك أن قوله فلان ظلمني يكرهه الإنسان ، فهل هذا أي قولي أنا فلان ظلمني هل هو من الغيبة المحرّمة التي حرّمت في الكتاب والسنّة ؟! أم هذه الغيبة الجائزة ؟ الجواب: هي غيبة جائزة بل قد تجب أحياناً إذا كان ما يمكن الوصول إلى الحق إلا من طريق استغابة الظالم، وهذا بالطبع لم يقله العلماء بمجرّد رأي من عندهم ، بل هناك وقائع في السّنّة تشهد بجواز وصف الظالم بظلمه من المظلوم لكي يصل إلى حقه المهضوم، من ذلك ما رواه مؤلف كتابنا هذا الإمام البخاري في * الأدب المفرد * وغيره من حيث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله جاري ظلمني، قال عليه الصلاة والسلام : اجعل متاعك على قارعة الطريق، ففعل الرجل ، فشيء ... الناس بطبيعة الحال، فكلما مرّ بعضهم قالوا: مالك يا فلان؟ يقول: جاري ظلمني، مالك يا فلان ؟ جاري ظلمني فما كان منهم إلا أن ينالوا منه وأن يسبوه ويشتموه ، بل يقولون لعنه الله كيف مسلم يظلم أخاه المسلم ؟ قاتله الله لعنه الله والجار يسمع هذه السباب وهذه الشتائم بأذنه ، فكان هذا كافياً لتأديبه وردعه ونهيه عن ظلمه فجاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال : يا رسول الله مُر جاري بأن يعيد متاعه إلى داره .
فقول الرجل أولاً للرسول صلى الله عليه وسلم : هذا الرجل ظلمني هذه غيبة ، لأنه يصفه بما يكره بطبيعة الحال ، ولكن لما كان هذا المظلوم لا يصف جاره بالظلم هكذا من باب التشفّي، ومن باب إرواء غليل غيره ، وإنما ليعرّف الرسول عليه السلام بحاله حتى يعالج له أمره، وهذا االذي وقع فعلا فوصّاه الرسول عليه السلام بطريقة عملية وينهيه من ظلمه جاره الظالم ، وتقيل الظالم في الوقت نفسه وذلك أنه عليه السلام أمره بأن يلقي بمتاع البيت في الطريق فكان الناس كما سمعتم إذا رأينا ذلك سألوه عن السبب فيقول : جاري ظلمني، فتنهال عليه تلك السّبائب والشتائم فكان ذلك سبباً لردعه عن ظلمه.
بمثل هذا الحديث أخذ العلماء جواز غيبة الظالم من المظلوم ، وهذا ما صرّح به القرآن الكريم حيث قال عز وجل : (( لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم )) هذه الآية صريحة أن الإنسان لا يتكلم بكلام سيء إلا من المظلوم، فيجوز أن يتكّلم بكلام ضد ظالمه حتى يتوصل به إلى حقه المهضوم، ومن هنا يأتي الحديث الذي يذكره الفقهاء في كتاب الحقوق والبيوع، قال عليه السلام : ( لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ) ( لي الواجد ) : الّلَي يعني المماطلة، والواجد : هو الغني المستقرض مالا من غيره يجد في ماله وفاءً له ثم يماطله ولا يوافيه حقّه ، كما قال عليه السلام في حديث آخر : ( مطل الغني ظلم ) لكن في حديثنا الأول يقول: ( لي الواجد يُحلّ عرضه وعقوبته ) لي: المماطلة، الواجد: يعني الغني، يحل عرضه يعني يحل لصاحب الحق الذي يطالبه بالوفاء أن ينال منه، أن يقول فلان مقترض مني من سنة من سنتين وعنده مال ... هذه غيبة لكنها غيبة جائزة ، لما ذكرنا آنفاً من قصة ذلك الرجل الذي ظلمه جاره ( لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ) يحل عرضه : من الدائن الذي لا يفيه ، وعقوبته من الحاكم فهو يستطيع أن يطوله وأن يناله بأذى ، بحبس أو بجلد جلدات من باب التأديب لماذا تمنع أخاك المسلم حقّه.
الشاهد : من الحديث قوله عليه السلام : ( لَيُّ الواجد يحل عرضه ) يعني النيل منه بينما هذا النّيل لا يجوز لأخ الإسلام كما سمعتنّ في هذا الحديث من قوله عليه السلام : ( إلا امرءً اقترض امرء ظلما ) فذاك الذي هلك وحرج هذا النّوع الأول مما يجوز استغابته وهو المتظلّم لظالمه.
ما هو التحديد اللغوي للمظلمة التي تجوّز للإنسان أن يغتاب شخصا ؟ لأن الكثير يدّعي أنه مظلوم , وهو ليس كذلك ؟
الشيخ : ليس له حد كل من يريد أن يصل ويتخلص منه فيجوز أن يستغيبه.
السائلة : نفترض أن الإنسان متوهّم ، هنا بحث مفيد جدا إن الإنسان يريد أن يصبر على إنسان يستغيبه ... هذا الإنسان ظلمه مظلوم يريد أن يزيل الظلم عن نفسه فاستباح له الغيبة ، فكيف نريد أن نفرّق بين الغيبة المسموحة شرعاً وبين الممنوعة شرعاً ؟
الشيخ : هذا سؤال ما له جواب ، ما بيعرف الإنسان نفسه ؟!
السائلة : ...
الشيخ : الله يقول : (( اتقوا الله حق تقاته )) شو هو حق تقاته ؟ كل واحد يعرف حاله ، ( صلّ قائماً فإلم تستطع فجالساً ) حدد لي الاستطاعة ؟ لا أحد يستطيع أن يحددها كل إنسان يعرف نفسه الله عز وجل لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فالإنسان يجب عليه أن يتقي الله عز وجل ، نحن غرضنا في هذا بيان الأحكام الشرعية، أما اللعب على الإنسان هذا ممكن الناس يلعب بعضهم على بعض أما الله عز وجل فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
7 - ما هو التحديد اللغوي للمظلمة التي تجوّز للإنسان أن يغتاب شخصا ؟ لأن الكثير يدّعي أنه مظلوم , وهو ليس كذلك ؟ أستمع حفظ
تتمة للفائدة : أنواع الغيبة المشروعة المحل الثاني : " ومعرّف " .
المحل الثاني : مُعرّف ، قال : "ومعرّف " : هذا التعريف له علاقة في النواحي الاجتماعية في مناسبات كثيرة وكثيرة جداّ، ًكثيراً ما يأتي رجل إلى صديقه يسأله: " فلان شو رأيك فيه ؟ يريد أن يشاركني يعاملني في المال ، أو فلان يريد أن يخطب منا ، شو تعرف فيه ؟ " يكون الجواب التقليدي المعروف : " كل الناس خير وبركة "، وهذا المسؤول يعلم خلاف ذلك ، يعلم مثلاً أن المسؤول عنه من الناحية المادية ليس أميناً وحينما سئل عليه أن يعرّف السائل بحقيقة المسؤول عنه ، لازم يقول والله أنا عاملته ولم أنتصح بمعاملته وعمل كذا وكذا هذا غيبة لكن هذه غيبة مستثناه في جملة المستثنيات الداخلة في باب: " الدين النصيحة ".
كذلك في الصورة الأخرى : " فلان بيخطب من عندنا ما رأيك فيه ؟ " " كل الناس خير وبركة " هو يعرف أنه شارب بطال عطال إلخ فلا يذكره بما يعلم منه من باب " زعم " أستتر عليه ، هذا غلط ، هذا كما قلته في مطلع الكلام ورع بارد ، يجب أن يذكر ما فيه لكي يكون هذا السائل على بيّنة من أمره.
تتمة للفائدة : أنواع الغيبة المشروعة المحل الثالث : " ومحذّرِ "
ومحذّرِ : بدون سؤال وجواب مسلم رآى مسلماً شاباً نشأ في طاعة الله ، أو فتاة محتجبة متستّرة محشومة تعاشر فتاة لا خلاق لها ، فيجب على المسلم أو المسلمة أن يحذّر لك الشاب أو تلك الشابة عن مخالطة ذلك الإنسان المنحرف ، خشية أن يفسد بمخالطته ومصاحبته ، وهناك أحاديث كثيرة جدّا كلها تدندن حول قضية واحدة وهي أن المسلم ويجب أن نعلم دائماً أننا إذا قلنا : "مسلم" أن المسلمة داخلة في المعنى هذا أن المسلم يجب عليه أن يختار الصاحب والصديق الذي يعاشره ويخالطه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي ).
( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي ) ( لا تصاحب إلا مؤمناً ) لأنه كما يقول المثل العامي : " الصاحب ساحب " فعلا الصاحب ساحب، تجري عدوى الصاحب سيء الخلق تسري منه إلى صاحبه ، ولكذلك فقد أبدع الرسول صلوات الله وسلامه عليه حينما ضرب مثل الصاحب الصالح ، والصاحب الطالح بقوله عليه الصلاة والسلام : ( مثل الجليس الصالح كمثل بائع المسك ، إما أن يُحذيك إما أن يُعطيك وإما أن تشم منه رائحةً طيبة ، ومثل صاحب السوء كمثل صاحب الكير -الحداد- إما أن يحرق ثيابك وإما أن تشم منه رائحة كريهة ) فهذا مثل الصاحب صالحاً كان أو طالحاً، فلا مناص من أن يتأثر صاحبه به خيراً أو شرّاً ، إذا كان الأمر كذلك فإذا رأيت شاباً يصاحبه فاسقاً ، فعليك أن تحذّره وأن تقول له فلان من صفته كذا وكذا هذا وإن كان غيبة ، لكن هذا من الغيبة المستثناة من التحريم لأن الدين النصيحة كما قال عليه الصلاة والسلام : ( الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) فهذا من النصح لعامة المسلمين حينما نرى مسلمًا يصاحب مسلماً فاسقاً لا يدري من أطباعه وأخلاقه، فيجب أن نحذّره منه حتى لا يتأثر به.
هذا هو النوع الثالث وهو المحذّر ، متظلّم ومعرّف وحذّر.
تتمة للفائدة : أنواع الغيبة المشروعة النوع الرابع : " ومجاهر فسقاً " .
التحذير الذي هو النوع الثالث غير المجاهر بالفسق ، لأن النوع الثالث قد يكون لا يوجد في مظهره ما يُنبئ عن فساد طويته ومع ذلك يقال لصاحبه من نعته ومن صفته كذا وكذا ، فلان من صفته كذا وكذا ، فإياك وإياها.
أما النوع الرابع : " ومجاهرٍ فسقاً "
فهي معلنة مخالفتها لدينها ومعصيتها لربها فهذا النوع يُستغاب، لماذا ؟ تحذيراً لها أو لهذا النوع لعله يرعوي ويتوب إلى ربه تبارك وتعالى.
المجاهر بالفسق ليس له غيبة وقد جاء في ذلك حديث صريح ولكنه لا يصح إسناده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولفظه : " ليس لفاسق غيبة " ولكنه حديث ضعيف وإن كان معناه صحيحاً.
" ومجاهر فسقاً " .
تتمة للفائدة : أنواع الغيبة المشروعة النوع الخامس : " ومستفتٍ " .
إلى العالم فيقول زوجتي تفعل كذا وكذا فما الحكم ، فقول الزوج : " زوجتي تفعل كذا وكذا " غيبة لها ، وعلى العكس: تأتي المرأة إلى العالم تقول زوجي يفعل معي كذا وكذا فهذا غيبة منها له ، فهل هذا يجوز ؟
الجواب: إذا كان قصد كل منها أن يتعرف على حكم الله عز وجل فهذا أمر جائز، أما إذا كان المقصود هو التشفّي فهذا حرام ، وهذه هي الغيبة المحرّمة بنص الكتاب والسنّة.
ومن الشواهد على ذلك مما جاء في الحديث الصحيح: ( أن امرأة جاءت إلى الرسول عليه السلام ، فقالت: يا رسول الله زوجي رجل شحيح زوجي رجل شحيح -يعني بخيل- أفآخذ من ماله ما يكفيني أنا وأولادي ؟ ).
تقول المرأة السائلة المستفتية للنبي عليه السلام : زوجي من طبعه البل والشّح ولازم ذلك أنه لا يقوم بواجب النفقة لا بالنسبة لي كزوجة ، ولا بالنسبة لأولادي منه ، فهل يجوز يا رسول الله أن آخذ من ماله خلسة بدون علمه لأنه هو بخيل ما يخرج من نفسه ومن مزاجه ؟ فقال عليه السلام : ( خذي من ماله ما يكفيك أنت وولدك بالمعروف ) الشاهد من هذا الحديث هو قول المرأة للرسول عليه السلام : زوجي رجل شحيح، هذه غيبة ، نرجع لقاعدة : الغيبة ما هي ؟ ذكرك أخاك بما يكره ، لا شك أن الرجل لو بلغه أن زوجته قالت لفلان العالم إنه شحيح ، هذا يزعجه بلا شك لأنه غيبة ، لكن ما دام أرادت من وراء ذلك ليس الطّعن فيه وإنما الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي، لذلك لم نجد الرسول عليه السلام منكراً عليها ، ما قال لها : اسكتي هذه غيبة ، والغيبة محرّمة لأنه عليه السلام علم منها أنها إنما تريد أن تعرف حكم الله في المسألة التي هي تسأل عنها فأجابها عليه السلام بقوله : ( خذي من ماله ما يكفيك أنت وولدك بالمعروف ) هذا القسم الخامس : ومستفتٍ .
تتمة للفائدة : أنواع الغيبة المشروعة النوع السادس : " ومن طلب الإعانة في إزالة منكر " .
قال : " ومن طلب الإعانة في إزالة منكر " أي: إذا كان هناك منكر في الحي وكان لا سبيل إلى إزالته والقضاء عليه إلا من باب التعاون المسلمون بعضهم مع بعض ولا بد لمن كان على علم بالواقعة السيئة أن يحدّث عن أهلها الآخرين ممن يتعاون معهم في سبيل إزالة ذلك المنكر، فمثلاً لو أن إنسان سعى لفتح خمّارة في محلّه ، فهو سيبادر إلى إخوانه وأهل المحل البارزين فيها يقول لهم : فلان ذهب واتصل بالمحافظة وقدّم طلب رخصة له لفتح دكان خمّارة أو ما شابه ذلك وقبل أن تصبح حقيقة واقعة يجب أن تتعاونوا على منعه ..إلخ، هذا كله غيبة ولكن في سبيل دفع الشر الذي إذا حلّ فسيفسد شباب محله وربما نساءه أيضًا ، ولذلك التعاون على إزالة المنكر ولو كان يستلزم شيئًا من الاستغابة فهذه الغيبة جائزة.
خلاصة القول: الرسول صلوات الله وسلامه عليه حذّر في هذا الحديث حذّر المسلمين من أن يغتاب أحدهم أخاه المسلم ظلماً ففي قوله : ( ظلماً ) إشارة إلى أن هناك غيبة لا تعتبر ظلماً ولذلك اقتضى الفقه أن نشرح لكنّ هذه الأنواع من الغيبة التي لا توصل بأنها ظلم ، وما سوى ذلك فظلمٌ ، ومن وقع فيه فهو كما قال عليه الصلاة والسلام : (( فذاك الذي حرج وهلك )).
وفي الدرس الآتي إن شاء الله نتمم الكلام على هذا الحديث .
وفي هذا القدر كفاية .
والحمد لله ربّ العالمين.
يقول الرسول عليه السلام: ( مثل القائم على حدود الله ومثل المدهن فيها ، كمثل قوم ركبوا سفينة فاستهموا فيها فكانت طائفة في أعلاها ، وطائفة في أدناها، فكان الذين في أدناها يتسقون الماء من البحر فيمرّون على الذين هم في أعلاها، فقالوا ذات يوم: لو أننا فتحنا فتحة في أسفل السفينة ، وبذلك نريح أنفسنا ونريح إخواننا، قال عليه الصلاة والسلام : فإن هم فعلوا ذلك هلكوا وأهلكوا ).
12 - تتمة للفائدة : أنواع الغيبة المشروعة النوع السادس : " ومن طلب الإعانة في إزالة منكر " . أستمع حفظ
تتمة شرح حديث أسمامة بن شريك رضي الله عنه : ( ... قالوا يا رسول الله أنتداوى قال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء ... )
الحديث كما قلنا في الدرس الماضي إسناده صحيح يرويه المصنّف رحمه الله .
عن أسامة بن شريك قال : ( كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، ناس كثير من هاهنا وهاهنا، فسكت الناس لا يتكلمون غيرهم، فقالوا: يا رسول الله، أعلينا حرج في كذا وكذا ؟ في أشياء من أمور الناس، لا بأس بها، فقال: يا عباد الله، وضع الله الحرج، إلا امرءا اقترض امرءا ظلما فذاك الذي حرج وهلك، قالوا : يا رسول الله، أنتداوى ؟ قال: نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد، قالوا: وما هو يا رسول الله ؟ قال: الهرم، قالوا: يا رسول الله ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال: خلق حسن ).
كنا شرحنا في الدرس الماضي كما قلنا الطرف أو النصف الأول من هذا الحديث وبقي علينا شرح تمامه .
وهو قوله عليه الصلاة والسلام : ( نعم يا عباد الله تداووا ) .
كان هذا الأمر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتداوي جواباً للسؤال سؤال الأعراب، حيث قالوا : أنتداوى يا رسول الله ؟ وكأن مبعث سؤال ألعراب هو كأنه بسبب ما يُلقى في أذهان بعض الناس أن التداوي ينافي التوكل، فهم كأعراب لا علم عندهم لا يبعد أن يكون قد دار في أذهانهم أن التداوي من معالجة الأمراض ينافي التوكل على رب الأرباب سبحانه وتعالى ، ولكنهم من جهة أخرى يعلمون بجهلم ولذلك فهم لا يريدون أن يعتمدوا على مجرد خواطرهم ووساوسهم وأن يتجاوبوا معها ولذلك بادروا الرسول عليه الصلاة والسلام في السؤال عن ذلك فقالوا : ( أنتداوى ؟ قال: نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا جعل له شفاءً ) كان جواب الرسول عليه الصلاة والسلام لسؤال الأعراب أنتداوى جوابا ينطبق ويتماشى مع سنة الله عز وجل في خلقه التي تقول بأن الله عز وجل قد حعل لكل مسبَّب سبباً ، فالله عز وجل الذي خلق الأمراض بقدرته وحكمته جعل لها أيضًا أدوية إذا استعملها المريض حصل الشفاء والعلاج بإذن الله تبارك وتعالى، ولذلك الرسول عليه السلام لما أجاب الأعراب بأنه ينبغي عليهم أن يتداووا بين أن التداوي لا ينافي التوكل على الله، لأن التوكل على الله لا ينافي أيضًا الأخذ بالأسباب التي شرعها الله تبارك وتعالى.
نحن نعلم جميعاً أن الرزق مقسوم يقسم الرزق على كل مخلوق وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه كما جاء في الأحاديث الصحيحة وبخاصة منها حديث عبد الله بن مسعود الذي فيه قوله عليه السلام : ( يُجمع خلق أحدكم أربعين يوماً نطفةً ) إلى آخر الحديث الذي فيه أنه بعد أن يمر هذا الجنين في الأدوار المذكورة في الحديث أي يمضي عليه أربعة أشهر يأتيه الملَك فينفخ فيه الروح ويسأل ربه أسعيد أم شقي ، رزقه وأجله ، فيُكتب في تلك الساعة رزقه وحياته عمره طويل قصير إلى آخره، فمع هذه الكتابة فقد جعل الله عز وجل كما ذكرنا آنفاً : لكل شيء سببا ، فالرزق وإن كان مقسوماً فلا بد من السعي وراءه كما قال عز وجل في القرآن الكريم : (( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور )) فلم يقل ربنا عز وجل اتّكلوا على الكتابة التي كُتبت على أحدكم وأنتم بعد ما خرجتم إلى الوجود ، وإنما قال : (( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها )) إلى آخر الآية ، كذلك السعادة والشقاوة تماماً فمن يريد أن يكون سعيداً فليعمل عمل أهل السعادة الذي يريد أن يكون شقياً فليس عليه إلا أن يعمل عمل أهل الشقاوة ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : ( فمن كان من أهل السعادة فليعمل بعمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فليعمل بعمل أهل الشقاوة ) وهكذا فكل شيء في الحياة الدنيا إنما هو مربوط بالأسباب التي جعلها الله عز وجل أسبابا لمسببات هو قدّرها وهو نظّمها.
13 - تتمة شرح حديث أسمامة بن شريك رضي الله عنه : ( ... قالوا يا رسول الله أنتداوى قال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء ... ) أستمع حفظ
فائدة : أقسام الأسباب التي أمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه بالأخذ بها في التداوي .
أما الجائز فهو كل دواء يحصل فيه الفائدة والشفاء لم ينه عنه الشارع الحكيم فيجوز استعماله ، أما الدواء الثاني الذي لا يجوز استعماله فهو الدواء المنهي عنه، مثلا الخمر أو أي مسكر ، فقد ابتلي بعض المسلمين اليوم بمعالجة بعض الأمراض بأدوية فيها مواد كحولية مواد مسكرة ، فهذا لا يجوز استعماله لسبيين اثنين ، أولاً: لأنه دواء خبيث ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الدواء الخبيث هكذا النص: ( نهى عن الدواء الخبيث ) فلا شك أن الخمر إذا حلّت في دواء خبّثته لأنها أم الخبائث.
وثانياً: لأن الخمر بصورة خاصة قد وصفها الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح بقوله: ( إنها داء وليست بدواء ) ولذلك فلا يجوز لمن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر أن يتقصّد التداوي بالخمر بأي طريقة كان هذا التداوي.
فإذن قوله عليه السلام: ( يا عباد الله تداووا فإن الله ما أنزل داءً إلا وجعل له شفاءً ) إنما يعني الدواء المباح الذي لم يأت نهي عنه في الشرع الحكيم.
تتمة شرح حديث : ( ... قال: نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء ... )
هل هذا الخبر من الرسول عليه الصلاة والسلام لأن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له شفاءً يشمل كل الأدواء فلا يبق هناك داء إلا يمكن شفاؤه ؟ يقول الرسول عليه السلام: إلا شيء واحد وهو الهرم الذي يقترن معه عادةً الموت، فهذا لا دواء له، أي إن الله عز وجل كما قال ابن الوردي أو غيره :
" كتب الموت على الخلق فكم *** فلّ من جمع وأفنى من دول "
فالموت مكتوب على كل حي، فلا يبقى على هذا الكون حي إلا الحي القيوم سبحانه وتعالى، ولذلك فقوله: ( إلا جعل له شفاء ) استثنى منه عليه الصلاة والسلام الهرم لأنه نذير وقرين الموت، فما من إنسان يهرم إلا ويعقبه الموت لا مناص من ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( فإن الله عز وجل لم يضع داءًا إلا وضع له شفاءً غير داء واحد، فقالوا: ما هو يا رسول الله ؟ قال: الهرم ) فذكر الهرم ، وهو يعني عليه اللام : الموت لأن الموت كما قلنا يأتي بعد الهرم ولا بدّ لكن قد يأتي الموت على الشاب، قد يأتي الموت على الطفل الصغير لكن إذا هرم الإنسان فلا مناص لأن يتهيّأ إلى الموت القريب .
لذلك جاء التصريح بالموت في بعض الأحاديث الصحيحة كقوله عليه الصلاة والسلام: ( الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت ) فهاهنا صّرح ما قال الهرم قال: ( الموت ) لأن الهرم المقصود به هنا الواقع الهرم الذي هو نذير الموت .
15 - تتمة شرح حديث : ( ... قال: نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء ... ) أستمع حفظ
هل المقصود بحديث الرسول : ( اعوذ بك من الهرم والجبن ) الهرم الذي يعقبه الموت ؟
السائلة : قوله : ( أعوذ بك من الهرم والجبن ...)
الشيخ : والعجز والكسل ، نعم .
السائلة : يعني بدوا يكون عنده خرف كثير؟
الشيخ : نعم هرم عن هرم يختلف طبعاً ، إن كان يشيخ ويهرم ويكبر لكن لا يزال وعيه معه ولا يزال همته معه بينما هناك أناس آخرون ليسوا كذلك ، فنسأل الله عز وجل ألا يردنا في آخر حياتنا إلى أسفل سافلين وهو (( أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً )).
فائدة : ما الجمع بين قوله عليه السلام : ( ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواءً ) وبين ما يحصل في الواقع من أن الدواء لا يشفي المريض ؟
الجواب : ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو قوله عليه السلام : ( إن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواءً علمه من علمه وجهله من جهله ) فالله عز وجل كما قال عليه الصلاة والسلام ( ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواءً ) ولكن الشطارة بقى اكتشاف هذا الدواء عبّر الرسول عليه السلام عن ذلك بقوله : ( علمه من علمه وجهله من جهله ) فلا يُشكل بقى إذا ما بعض الناس تداووا من مرض ما ثم لم يحصل الشفاء لأن النتيجة أن هذا الطبيب لم يهتد بعد إلى دواء ذلك المرض.
الشيخ : نعم
السائلة : من روى هذا الحديث : ( ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواءً ) ؟
الشيخ : قلت رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له دواءً علمه من علمه وجهله من جهله ) .
17 - فائدة : ما الجمع بين قوله عليه السلام : ( ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواءً ) وبين ما يحصل في الواقع من أن الدواء لا يشفي المريض ؟ أستمع حفظ
تتمة شرح حديث أسمامة بن شريك رضي الله عنه : ( ... قالوا يا رسول الله ما خير ما أعطى الإنسان قال خلق حسن ) .
الجواب: لا ، يعني ما هو خير ما أعطي الإنسان بعد إسلامه وإيمانه ؟ وإلا فمهما كان الإنسان حسن الخلق ولكنه كافرٌ بربّه فهذا الحسن من الخلق لا يفيده شيئا مطلقاً ، كما قال تعالى: (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً )) فالكافر خلاف ما يتوهم بعض الشبيبة النابتة اليوم أن المخترعين والمبتكرين الذين يقدّمون لهذه الأمم كلها منافع ومعالجات يستفيد منها جميع أهل الأرض لجهلهم أن هذه الأمور كلها لا تفيد إلا المسلم يتناسون هذه الحقيقة فيظنون أن هؤلاء لهم منزلة كبيرة عند الله تبارك وتعالى ، لجهلهم بالقرآن فهنا حينما نقرأ هذا السؤال: ما خير ما أعطي الإنسان ؟ فنسمع
الجواب : خلقٌ حسن، يجب أن نستحضر هذه الحقيقة أن المقصود بالإنسان هنا الإنسان المؤمن ، وحينذاك فخير ما أعطي الإنسان المؤمن هو الخلق الحسن، أما الإنسان مطلقاً ولو كان كافراً فليس خير ما أعطيه هذا الإنسان الكافر هو الخلق الحسن ، لا هذا ما يفيده شيء مهما أعطي من أمور هي في حقيقتها أمور حسنة لكن لا تفيده شيء عند الله عز وجل، كيف وربنا عز وجل يخاطب نبيه عليه السلام في شخصه أصالة والمقصود به أمته تبعا له ، قال تعالى : (( لإن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكونن من الخاسرين )) .
فهؤلاء المشركون مهما قدّموا من خيرات ومن خدمات من أي نوع كانت هذه الخدمات لا تفيدهم شيئاً ما داموا كفّاراً مشركين برب العالمين سبحانه وتعالى، إذن يجب أن نفهم هذا السؤال :ما خير ما أعطي الإنسان ؟ بقيد الإنسان المسلم والجواب حينذاك : خلق حسن هو خير ما أعطي المسلم.
الشيخ : ومن هذا الحديث وأحاديث سبقت في الدرس الماضي يتبيّن لكم أهمية حسن الخلق في الإسلام، فلذلك على كل منا ذكراً كان أو أنثى أن يعالج نفسه وأن يعالج أخلاقه ويحسّن ويشذّب على الأقل من طباعه حتى يكون حسن الخلق، ولقد وصل اهتمام الرسول عليه السلام حسن الخلق وعنايته بسؤاله لربه أن يحسّن خلقه وهو كما وصفه ربنا تبارك وتعالى بقوله : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ومع ذلك فقد كان عليه الصلاة والسلام من سيرته ومن هديه أنه إذا وقف أمام المرآة -والوقوف أمام المرآة أمر جائز شرعاً لتسريح الشعر وتنظيف الوجه لغير ذلك من التزيّن المباح سواءً للرجل أو للمرأة- فكان عليه السلام إذا وقف أمام المرآة يقول : ( اللهم كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي ).
( اللهم كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي ) هذا دعاء يجب على كل مسلم وكل مسلمة أن يعنى بحفظه ، وهي جملتين مختصرتين : ( اللهم كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي ) إذا وقف أمام المرآة فيجد ما يقرؤه في القرآن من قول ربّنا تبارك وتعالى : (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )) فيجب أن يتذكّر بهذا التقويم الذي يراه في المرآة أنه بحاجة إلى أن يوفّقه الله عز وجل إلى أن يقوّم هو أخلاقه وطبيعته وخلقه ، فإن هذا الورد وهذا الدعاء هو من جملة الأسباب التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين لتحسينهم لأخلاقهم فكما شرحنا في الدرس الماضي ليس الأمر كما يقول البعض أن كل إنسان وما طبع عليه ولا مجال لتحسين أطباعه وأخلاقه ليس الأمر كذلك وإلا لبطلت كثير من نصوص ذكرناها في الدرس الماضي، والآن نذكّر بهذا النص وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا وقف أمام المرآة طلب من الله تبارك وتعالى أن يحسّن أخلاقه كما حسن خلقه، وهذا بلا شك هو تعليم لنا لأنه عليه الصلاة والسلام كما ذكرنا آنفاً من القرآن هو في أحسن ما وجد من إنسان على وجه الأرض من حسن الخلق ، : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) لكن نحن الذين نحتاج أن نقّوم أنفسنا وأن نحسّن أخلاقنا كثيراً وكثيراً ، بأسباب دائما نروّض أنفسنا إذا غضبنا نكبح من جماح أنفسنا وإذا أثرنا فلا نثور إلى آخره، ومن هذه الأسباب ندعو الله عز وجل إذا وقفنا أمام المرآة فنقول: ( اللهم كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي ) .
18 - تتمة شرح حديث أسمامة بن شريك رضي الله عنه : ( ... قالوا يا رسول الله ما خير ما أعطى الإنسان قال خلق حسن ) . أستمع حفظ
شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل صلى الله عليه وسلم ... )
هذا الحديث يبيّن لنا أيضًا كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه وجودة نفسه ، حيث يصفه عبد الله بن عباس رضي الله عنه فيقول : ( كان رسول الله عليه السلام أجود الناس ) لا يفوقه أحد في الكرم والجود صلى الله عليه وسلم بالخير طبعا وليس بالشر ، ولكن مع ذلك كانت حالته هذه تسمو وتعلو به في رمضان ، لأن النفوس الخيّرة تزداد خيراً بمناسبة الأجواء أو بمناسبة الزمن الذي تحلّ فيه أو بمناسبة الصلات الجديدة التي تعترض له ، فههنا الرسول عليه الصلاة والسلام الذي كان أجود الناس بالخير كان أجود ما يكون في رمضان لأن شهر رمضان شهر الخير والبركة ، فهو يوحي على من صامه ومن حل فيه بخير جديد كان لا يعرفه سابقاً وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان بصورة عامة أجود الناس بالخير لكن أجود ما يكون في رمضان، ثمّ له حاله ثالثة فكان أجود ما يكون في رمضان إذا لقيه جبريل عليه الصلاة والسلام.
فأصبح للرسول عليه السلام ثلاث حالات ثلاث مقامات في الفضائل ، المقام الأول: هو أنه أجود الناس بالخير دائما وأبداً في كل أشهر السنة.
المقام الثاني: وهو أعلى كان أجود ما يكون في رمضان.
والمقام الثالث والأخير: كان أجود ما يكون إذا لقيه جبريل عليه الصلاة والسلام، طبعاً جبريل ما كان يلقاء في رمضان ليلا نهاراً ، وإنما كان يلقاه في ساعات من الليل أو النهار، فإذن في لقاء الرسول بجبريل عليه السلام كان يفيض على الرسول عليه السلام بسبب هذا اللقاء من الخير أكثررمما كان عليه الرسول عليه السلام قبل رمضان وفي رمضان قبل لقائه لجبريل عليه الصلاة والسلام، ولذلك فهو يقول : ( كان أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل صلى الله عليه وآله وسلم، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان ) لماذا كان جبريل يلقى الرسول عليه السلام في كل ليلة ؟ يقول ابن عباس : يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه والسلام القرآن يعني يدرس القرآن عليه هذا القرآن الذي نزل به جبريل عليه الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى كان جبريل ينزل عليه كل ليلة من رمضان حتى يدرس عليه الرسول عليه السلام القرآن دراسة من حيث الضبط والإتقان للتلاوة، وربما لتلقي بعض المعاني التي قد تخفى على الرسول عليه السلام فهو بحاجة دائمة إلى مدد السماء ووحي السماء، فكان جبريل يلقاه عليه الصلاة والسلام في كل ليلة من رمضان يعرض عليه الرسول القرآن يعني يدرس عليه القرآن ويتلوه بين يديه، فكيف يكون حال الرسول عليه الصلاة والسلام حينما يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان قال: ( فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ) هكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يرتقي ويعلو ويسمو في أخلاقه عليه الصلاة والسلام بسبب اختلاف ظرف عن ظرف ، فبسبب حلول رمضان كان الرسول عليه السلام أجود مما كان قبل رمضان، وحين يلقاه جبريل عليه الصلاة والسلام لمدارسة القرآن معه كان يكون أجود بالخير من الريح المرسلة ، فالريح المرسلة التي ترسل من رب العالمين تحمل المطر والسحاب فهي تغيث الأرض كلها بدون استثناء فتعم الأرض الخير كله كذلك كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه إذا لقيه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة، ولعلّه عليه الصلاة والسلام في هذه الحالة من سمو الروحي والنفسي كان كما وصفه أحد السحابة وهو جابر بن عبد الله رضي الله عنه حيث قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سئل شيئًا أعطاه ) وفي رواية : ( إذا سئل شيئاً لا يقول لا ) ، لا يعرف الرسول عليه السلام أن يقول إذا سأله شائلٌ شيئًا لا، ولذلك قال بعض مادحيه عليه الصلاة والسلام :
" لم يقل لا إلا في تشهده "
يعني: لا إله إلا الله وإنما هو دائما إذا سئل أعطى حتى جاء حديث آخر صحيح يبيّن هذه الحقيقة ويؤكدها فقد كان يأتيه الرجل يسأله فيُصوّب الرسول عليه السلام النظر ويوجه إليه بصره من فوق إلى تحت يعني يستكشف حاله ، فيتبيّن له أن هذا السائل لا يستحق أن يُعطى ومع ذلك يعطيه ، لماذا لا يستحق أن يُعطى ؟ قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( لا صدقة لغني ولا لذي مرّة سوي ) المِرّة : القوة ، السوي : السالم البدن مش مقطوع ، المرة القوة يعني السوي الكامل البنية ما هو أقطع ولا هو أبتر ولا هو بأي شيء من النواقص التي تعتري البشر، فيقول عليه السلام : ( لا صدقة لغني ) بدل أن يعطي يطلب ليس له صدقة.
( لا صدقة لغني ولا لذي مرّة سوي ) : أي لشخص سوي قوي البنية، ولذلك كان إذا جاءه السائل يفحصه عليه السلام لماذا هو يشحد ؟ السؤال شحادة، يعني لماذا هو يشحد؟ أنا أراه قوي البنية سليم الأعضاء إلخ ، فقير ؟ لا يظهر انه فقير ، ومع ذلك كان يعطيه ، فإذا أخذ الصدقة التي أعطاه الرسول إيها وانطلق يقول الرسول عليه السلام لمن حوله: ( لقد نطلق يتأبّطها ناراً ) يعني هذه الصدقة انقلبت عليه نار، لأنه سأل ما لا يحل له فيقولون له عليه الصلاة والسلام : فلماذا تعطيهم ما دمت تعتقد أو ترى أنهم لا يستجقون الصدقة فلماذا تعطيهم ؟ وهنا الشاهد : قال عليه الصلاة والسلام : ( يسألونني ويأبى الله لي البخل ) يسألوني والله يأبى لي أن أبخل ولذلك أنا مضطر أن أعطيهم ، يعني مقام النبوة والرسالة توجب على الرسول عليه السلام أن يحافظ على هذا المقام السامي من أن يدنّس ويوسّخ بأن يشاع بين الصحابة الذين يسألونه وهم غير محقّين للسؤال : أننا سألنا الرسول وما أعطانا أي أن الرسول بخيل ، فهو يريد أن يقطع دابر الإشاعة هذه بأن يعطيهم ، لكن هم عليهم أن يعلموا أن الذي يسأل وليس له حق السؤال وأعطيته فإنما يتأبطها ناراً، هكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بضورة عامة أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان ثم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه الصلاة والسلام.
19 - شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل صلى الله عليه وسلم ... ) أستمع حفظ
فوائد مستفادة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل صلى الله عليه وسلم ... )
نستفيد أمور ثلاثة :
الأمر الأول : أن نتخلّق بخلق الرسول عليه السلام بالجود والكرم ، من كان ذلك من طبيعته فليحمد الله عز وجل، ومن لم يكن كذلك فليجاهد نفسه لأن الله تعالى يقول : (( وأحضرت الأنفس الشح )) يعني نفوس الناس مجبولة على البخل وعلى كل إنسان منا أن يجاهد نفسه أن يروّضها وأن يعوّدها على مكارم الأخلاق ، ومنها الجود بالخير والسماح به.
الشيء الثاني الذي نستفيه : أن نغتم وجودنا في أزمنة مباركة مثلا كرمضان ، فلا بدخل علينا رمضان ويخرج ونجن كما كنا قبله فنحن كما كنا قبله في رمضان وفيما بعد رمضان أي ما تجاوبنا مع الحياة الروحية التي يحييها جو رمضان كجو شهر مفضّل معظّم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كما سمعتنّ مع كونه أجود الناس فكان يظهر الفرق في جوده في رمضان بسبب هذا الجو هذا الزمن الفاضل الصالح هذه الفائدة الثانية التي نستفيدها من هذا الحديث.
والفائدة الثالثة والأخيرة مما يحضرنا الآن : أن الإنسان يستفيد تأثراً.