1 - و هذا الكلام قد رأيته ، صرح بمعناه طائفة منهم ، و هو لازم لجماعتهم لزوما لا محيدا عنه ، و مضمونه : أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله ، و أن الرسول معزول عن التعليم و الإخبار بصفات من أرسله ، و أن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله و الرسول ، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية ، و إلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء ، كالبراهمة و الفلاسفة ـ و هم المشركون ـ و المجوس و بعض الصابئين . و إن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ، و لا يرتفع الخلاف به ، إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم ، و قد أمروا أن يكفروا بهم ، و ماأشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه و تعالى : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا و توفيقا) [النساء : 60-62] . فإن هؤلاء إذا دعو إلى ما أنزل الله من الكتاب و إلى الرسول ـ و الدعاء إليه بعد وفاته و هو الدعاء إلى سنته ـ أعرضوا عن ذلك و هم يقولون : إنا قصدنا الإحسان علما و عملا بهذه الطريق التي سلكناها ، و التوفيق بين الدلائل العقلية و النقلية . أستمع حفظ
2 - ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل : إنما تقلدوا أكثرها عن طاغوت من طواغيت المشركين ، او الصابئين ، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم مثل فلان و فلان ، أو عمن قال كقولهم ، لتشابه قلوبهم ، قال الله تعالى : (فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما) [النساء : 65] (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) الآية [البقرة : 213] . و لازم هذه المقالة أن لا يكون الكتاب هدى للناس و لا بيانا و لا شفاء لما في الصدور ، و لا نوراً ، و لا مردا عند التنازع ؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون : إنه الحق الذي يجب اعتقاده ، لم يدل عليه الكتاب والسنة ، لا نصاً ولا ظاهراً ، وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله : (و لم يكن له كفوا أحد) [الإخلاص : 4] (هل تعلم له سميا) [مريم : 65] . و بالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش ، و لا فوق السموات و نحو ذلك بقوله : (هل تعلم له سميا) [مريم : 65] لقد أبعد النجعة ، و هو إما ملغز و إمام مدلس ، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين . و لازم هذه المقالة : أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرا لهم في أصل دينهم ؛ لأن مردهم قبل الرسالة و بعدها واحد ، و إنما الرسالة زادتهم عمى و ضلالة . أستمع حفظ
3 - يا سبحان الله ! كيف لم يقل الرسول يوما من الدهر ، و لا أحد من سلف الأمة : هذه الآيات و الأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه ، و لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم ، أو اعتقدوا كذا و كذا فإنه الحق ، و ما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره ، أو انظروا فيها ، فما وافق قياس عقولكم فاقبلوه ، و ما لا فتوقفوا فيه أو انفوه ؟. ثم رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث و سبعين فرقة ، فقد علم ما سيكون ، ثم قال : " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ،كتاب الله " . و روي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية : " هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم و أصحابي " . فهلا قال : من تمسك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بظاهر القرآن في باب الاعتقادات فهو ضال ، و إنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم و ما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة ـ في هذه المقالة ـ و إن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين . ثم أصل هذه المقالة ـ مقالة التعطيل للصفات ـ إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود و المشركين ، و ضلال الصابئين ، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام ـ أعني أن الله سبحانه و تعالى ليس على العرش حقيقة ، و أن معنى استوى بمعنى استولى و نحو ذلك ـ هو الجعد بن درهم و أخذها عنه الجهم بن صفوان ، و أظهرها فنسبت مقالة الجهميبة إليه . و قد قيل : إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان ، و أخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم ، و أخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه و سلم . و كان الجعد بن درهم هذا ـ فيما قيل ـ من أهل حران ، و كان فيهم خلق كثير من الصابئة و الفلاسفة بقايا أهل دين نمرود و الكنعانيين ، الذين صنف بعض المتأخرين في سيرهم ، و نمرود هو ملك الصابئة الكلدانيين المشركين ، كما أن كسرى ملك الفرس و المجوس ، و فرعون ملك مصر ، و النجاشي ملك الحبشة ، و بطليموس ملك اليونان ، و قيصر ملك الروم ، فهو اسم جنس لا اسم علم . فكانت الصابئة ـ إلا قليلا منهم ـ إذ ذاك على الشرك ، وعلماؤهم هم الفلاسفة ، و إن كان الصابئ قد لا يكون مشركا ، بل مؤمنا بالله و اليوم الآخر كما قال الله تعالى : (إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون) [البقرة : 62 ] . وقال : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ المائدة : 69 ] لكن كثيرا منهم أو أكثرهم كانوا كفارا أو مشركين ، كما أن كثيرا من اليهود و النصارى بدلوا و حرفوا و صاروا كفارا أو مشركين ، فأولئك الصابئون ـ الذين كانوا إذ ذاك ـ كانوا كفارا أو مشركين ، و كانوا يعبدون الكواكب و يبنون لها الهياكل . و مذهب النفاة من هؤلاء في الرب : أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منها ، و هم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه و سلم ، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة . أستمع حفظ
4 - و كذلك أبو نصر الفارابي دخل حران ، وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته ، و أخذها الجهم أيضا ـ فيما ذكره الإمام احمد و غيره ـ لما ناظر " السمنية " بعض فلاسفة الهند ـ و هم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات ـ فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود و الصابئين و المشركين ، و الفلاسفة الضالون ، هم إما من الصابئين أو من المشركين . ثم لما عربت الكتب الرومية و اليونانية ، في حدود المائة الثانية زاد البلاء ، مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم . و لما كانت في حدود المائة الثالثة : انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية ، بسبب بشر بن غياث المريسي و طبقته ، وكلام الأئمة مثل مالك و سفيان بن عيينة ، و ابن المبارك ، و أبي يوسف ، و الشافعي ، و أحمد ، و إسحاق ، و الفضيل بن عياض ، و بشر الحافي و غيرهم .....كثير في ذمهم و تضليلهم . و هذه التأويلات المجودة اليوم بأيدي الناس ـ مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات ، و ذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه " تأسيس التقديس " و يوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء ، مثل أبي علي الجبائي ، و عبد الجبار بن أحمد الهمداني ، و أبي الحسين البصري ، و أبي الوفاء بن عقيل ، و أبي حامد الغزالي ، و غيرهم ـ هي بعينها تأويلات بشر المريسي ، التي ذكرها في كتابه ، و إن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل و إبطاله أيضا ، و لهم كلام حسن في أشياء . فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي ، و يدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي ، أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري ، صنف كتابا سماه : " رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد " حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها ، و أعلم بالمنقول و المعقول من هؤلاء المتأخرين ، الذين اتصلت إليهم من جهته وجهة غيره ، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف ، و تبين له ظهور الحجة لطريقهم و ضعف حجة من خالفهم . ثم إذا رأى الأئمة ـ أئمة الهدى ـ قد أجمعوا على ذم المريسية و أكثرهم كفروهم أو ضللوهم ، و علم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسي ، تبين الهدى لمن يريد الله هدايته ، و لا حول و لا قوة إلا بالله . و الفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب ، و إنما أشير إلى مبادئ الأمور و العاقل يسير و ينظر . و كلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة ، لا يمكن أن نذكرها هنا إلا قليلا منه ، مثل كتاب " السنن " للالكائي ، و " الإبانة " لابن بطة ، و " السنة " لأبي ذر الهروي ، و " الأصول " لأبي عمرو الطلمنكي ، و كلام أبي عمر بن عبد البر ، و " الأسماء و الصفات " للبيهقي ، و قبل ذلك " السنة " للطبراني ، و لأبي الشيخ الأصبهاني و لأبي عبد الله بن مندة و لأبي أحمد العسال الأصبهانيين ، و قبل ذلك " السنة " للخلال ، و " التوحيد " لابن خزيمة ، و كلام أبي العباس بن سريج ، و الرد على الجهمية لجماعة مثل : البخاري ، و شيخه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الجعفي ، و قبل ذلك " السنة " لعبد الله بن أحمد ، و " السنة " لأبي بكر بن الأثرم ، و " السنة " لحنبل ، و للمروزي ، و لأبي داود السجستاني ، و لابن أبي شيبة ، و " السنة " لأبي بكر بن أبي عاصم ، و كتاب " خلق أفعال العباد " للبخاري ، و كتاب " الرد على الجهمية " لعثمان بن سعيد الدارمي و غيرهم . و كلام أبي العباس عبد العزيز المكي صاحب " الحيدة " في الرد على الجهمية و كلام نعيم بن حماد الخزاعي ، وكلام غيرهم ،و كلام الإمام أحمد بن حنبل ، و إسحاق بن راهويه ، و يحي بن سعيد ، و يحي بن يحي النيسابوري ، و أمثالهم ، و قبل : لعبد الله بن المبارك و أمثاله و أشياء كثيرة . و عندنا من الدلائل السمعية و العقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره ، و أنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة ، و لكن لا يمكن ذكرها في الفتوى ، فمن نظر فيها و أراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير . فإذا كان أصل هذه المقالة ـ مقالة التعطيل و التأويل ـ مأخوذا عن تلامذة المشركين و الصابئين و اليهود ، فكيف تطيب نفس مؤمن ـ بل نفس عاقل ـ أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين ، و يدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين ، و الصديقين ، و الشهداء و الصالحين ؟!. فصل ثم القول الشامل في جميع هذا الباب : أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ، و بما وصفه به السابقون الأولون ، لا يتجاوز القرآن و الحديث . و مذهب السلف : أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه ، و بما وصفه به رسوله من غير تحريف و لا تعطيل ، و من غير تكييف و لا تمثيل ، و نعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز و لا أحاجي ، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه ، لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول ، و أفصح الخلق في بيان العلم ، و أفصح الخلق في البيان و التعريف و الدلالة و الإرشاد . أستمع حفظ
5 - و هو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء ، لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه و صفاته ، و لا في أفعاله ، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة ، و له أفعال حقيقة فكذلك له صفات حقيقة ، و هو ليس كمثله شيء لا في ذاته ، و لا في صفاته و لا في أفعاله ، و كل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزه عنه حقيقة ، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه ، و يمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه ، و استلزام الحدوث سابقة العدم ، و لافتقار المحدث إلى محدث ، و لوجوب وجوده نفسه سبحانه و تعالى . و مذهب السلف بين التعطيل و التمثيل ، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه ، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ، و لا ينفون عنه ما وصف به نفسه ، و وصفه به رسوله ، فيعطلوا أسماءه الحسنى ، و صفاته العليا ، و يحرفوا الكلم عن مواضعه ، و يلحدوا في أسماء الله و آياته . و كل واحد من فريقي التعطيل ، فهو جامع بين التعطيل و التمثيل ، أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله و صفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ، فقد جمعوا بين التعطيل و التمثيل ، مثلوا أولا و عطلوا آخرا ، و هذا تشبيه و تمثيل منهم للمفهوم من أسمائه و صفاته بالمفهوم من أسماء خلقه و صفاتهم ، و تعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء و الصفات اللائقة بالله سبحانه و تعالى . فإنه إذا قال القائل : لو كان الله فوق العرش ؛ للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا ، و كل ذلك من المحال ، و نحو ذلك من الكلام ؛ فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان ، و هذا اللازم تابع لهذا المفهوم ، إما استواء يليق بجلال الله تعالى و يختص به ، فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يليق من سائر الأجسام ، و صار هذا مثل قول الممثل : إذا كان للعالم صانع ، فإما أن يكون جوهرا أو عرضا ، و كلاهما محال ، إذ لا يعقل موجود إلا هذان ، و قوله : إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك ، إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا ، فإن كليهما مثل و كليهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه ، و امتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي ، و امتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين . أستمع حفظ
6 - و القول الفاصل : هو ما عليه الأمة الوسط ، من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ، و يختص به ، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم ، و على كل شيء قدير ، و أنه سميع بصير ، و نحو ذلك ، و لا يجوز أن يثبت للعلم و القدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين و قدرتهم ؛ فكذلك هو سبحانه فوق العرش ، و لا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق و لوازمها . و العلم أنه ليس في العقل الصريح و لا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلا ، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق ، فمن كان في قلبه شبهة و أحب حلها فذلك سهل يسير . ثم المخالفون للكتاب و السنة و سلف الأمة ـ من المتأولين لهذا الباب ـ في أمر مريج فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها ، و أنه مضطر فيها إلى التأويل ، و من يحيل أن لله علما و قدرة ، و أن يكون كلامه غير مخلوق و نحو ذلك يقول : إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل ، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد و الأكل و الشرب الحقيقي في الجنة ، يزعم أن العقل أحال ذلك و أنه مضطر إلى التأويل ، و من يزعم أن الله ليس فوق العرش ، يزعم أن العقل أحال ذلك و أنه مضطر إلى التأويل . و يكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل ، بل منهم من يزعم أن العقل جوز و أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله ، فياليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب و السنة ؟! فرضي الله عن الإمام مالك ابن أنس حيث قال : " أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم لجدل هؤلاء " . و كل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر ، و هو من وجوه : أحدها : بيان أن العقل لا يحيل ذلك . و الثاني : أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل . و الثالث : أن عامة هذه الأمور قد علم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جاء بها بالاضطرار ، كما أنه جاء بالصلوات الخمس ، و صوم شهر رمضان ، فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويل القرامطة و الباطنية ، في الحج و الصلاة و الصوم و سائر ما جاءت به النبوات . الرابع : أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص ، و إن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك التفصيل ، و إنما يعلمه مجملا إلى غير ذلك من الوجوه ، على أن الوجوه الأساطين من هؤلاء الفحول ، معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية . و إذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه ، و من المعلوم للمؤمنين أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و سلم بالهدى و دين الحق ، ليظهره على الدين كله و كفى بالله شهيدا ، و أنه بين للناس ما أخبرهم به من أمور الإيمان بالله و اليوم الآخر . أستمع حفظ